السياسة الاحتكارية في الداخل والتوسعية في الخارج
12 فبراير/شباط (2015م)
كان من المفترض أن تنتهي مشاريع “إنقاذ الدولة” الخاصة بالجيل الأول من إسلاميي تركيا الذين ظهروا فيما بين عامي (1850-1924م) ومشاريع “تأسيس الدولة” للجيل الثاني منهم فيما بين عامي (1950-2000م) بحلول الألفية الثالثة لتنطلق بعدها فترة تنفيذ مشروعهم المسمى بـ”تحويل الدولة”، لكن شيئًا من هذا لم يحدث، لأن الجيل الثالث من الإسلاميين في تركيا انضموا إلى مسيرة الصراع من أجل الوصول إلى سدة الحكم؛ وقد تبنوا مفاهيم سياسية تقوم على القمعية الرجعية، نتيجة لعوامل عدة منها: الضغوط التي تعرضوا لها أثناء انقلاب ما بعد الحداثة الذي وقع في تركيا في 28 فبراير/ شباط عام (1997م)، وتدعيمهم من قبل فئة متدينة من المثقفين والكتَّاب الذين ليس لهم صلة وثيقة بالمصادر الإسلامية وليس لديهم معلومات كافية عن التاريخ الإسلامي، إضافة إلى ظهور فئة من السياسيين الذين يصفون أنفسهم بـ”المتدينين” على المسرح السياسي في تركيا وتوليهم زمام المبادرة بين الجيل الثالث من الإسلاميين وغايتهم الوحيدة هي الوصول إلى سدة الحكم بأي وسيلة ممكنة، وفي نهاية المطاف، وصلوا إلى السلطة في ظل الظروف الداخلية والخارجية في ذلك الوقت.
ومع أن هؤلاء اللإسلاميين القدامى وأقصد بذلك الشخصيات البارزة من الحزب الحاكم وعلى رأسهم السيد “رجب طيب أردوغان” أعلنوا تخليهم عن التيار الإسلامي الذي كان يتزعمه القائد الإسلامي الراحل السيد “أربكان” وتبنيهم الدستور العلماني في إدارة البلاد إلا أن سياساتهم الخاطئة سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي قد أدت إلى إلحاق الأضرار الجسيمة بالإسلام بسبب هويتهم المتدينة المحافظة.
إن السلطة المعاصرة في تركيا الآن تتبع سياسة “الهيمنة” في الداخل و”التوسع” في الخارج، وتتجسّد هيمنتها في ممارساتها الرامية إلى السيطرة على أجهزة الدولة بالكامل بتأييد من فئة معينة من المجتمع وجهودِها الساعية لتصفية معارضيها، في حين أن المجتمعات الغربية قد تمكنت بعد كفاح طويل وشاق من تشريع قوانين تضمن حرية الرأي والتعبير، كما شرعت القوانين التي تسمح للأحزاب المعارضة بالعمل السياسي بحرية، أما في الشرق فنجد أن مَن يضع القوانين ويطبقها هي الأحزاب التي تدعمها قبيلة أو عشيرة أو جماعة أو مذهب معين، وهذه القوانين مهمتها الأساسية هي حماية الأقوياء ورؤوس السلطة.
تعتبر السياسة الاحتكارية هي إحدى الوسائل الفعّالة للتحكم في السلطة، ولهذا فإن رؤوس السلطة الذين يقومون على سياسة الهيمنة يسعون دائمًا إلى إخضاع الآخرين تحت هيمنتهم، ولو كانت هذه السياسة منحصرة فقط في مجالات إدارة الدولة، لربما كان من الممكن أن نتحملها، غير أن السلطة، باعتبار طبيعتها الطاغية، تريد أن تهيمن كذلك على المجالات المدنية، وفي الغرب نجد أن المجتمعات المدنية قد تمكنت من الحصول على استقلاليتها من هيمنة السلطة الحاكمة من خلال خلقها مجالات مدنية مستقلة لا تسمح بتدخل النظام السياسي الحاكم فيها، هذا وقد تحولت المجتمعات المدنية في الغرب بغض النظر عن طابعها الديني أو العلماني إلى ساحة كفاح للاستقلالية، وإيجاد سبل للحرية مستقلة عن القوى الحاكمة، وأما في تركيا نجد السلطة الحاكمة تتبنى سياسة التحكم والتملك على كل شيء -وهي السياسة التي كان يمارسها “الاتحاديون” في الفترة الأخيرة من الدولة العثمانية- مما مكنهم من التدخل في المجالات المدنية بكل سهولة ويسر.
إننا نواجه في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها تركيا نتائج وخيمة وهدامة بسبب السياسات الاحتكارية والتوسعية التي ينتهجها الحزب الحاكم، فهذه الحكومة التي لم تستوعب الأحكام الإلهية بشكل تام تعتبر كل حركة معارضة تشكلت في البلاد “حركة مؤامرة” تهدف إلى القضاء عليها، وعندما ندرس التاريخ البشري على مر العصور والأزمنة نجد أن هناك نماذج عدة من السلطات الحاكمة التي احتكرت زمام الأمور قد اعتبرت معارضيها الذين لم يعلنوا خضوعهم للسلطة على أنهم أعداء يخططون للتآمر ضدها.
إننا نجد في المجتمعات التي تحكم فيها السلطات التي تتبنى سياسات جائرة لا تحترم الدستور والقوانين، تنظر إلى بعض القوى المدنية على أنها تهديد لهذه السلطة، فعندما تُعتبر القوى المدنية أو الشخصيات المدنية الفعالة في المجتمع كيانات تهدد أمن البلاد ستظهر عندئذ في هذا البلد محاولات السلطة الحاكمة الرامية لبسط السيطرة على القوى المدنية بما في ذلك الأحزاب المعارضة تحت شعار “حماية الدولة”، ولكن في حقيقة الأمر إن الدولة ما هي إلا آلية بسيطة ليست لها أي قدسية أو علوية، كما أنها لا تنحصر على فئة معينة من المجتمع تخدم مصالحها الشخصية بل هي آلية تقوم على تسيير الأمور في البلاد وتقدم الخدمات لجميع فئات المجتمع دون تمييز بشكل عادل وتحترم الدستور والقوانين.
وقد تبين لنا أن العناصر العميقة في الدولة التركية قد هيمنت على الجيل الثالث من الإسلاميين، وجعلتهم متكبرين، متفاخرين، مولعين بالأبهة والعظمة، غير منصفين، لا يبالون بالآخرين ولا يراعون القيم الأخلاقية، بحيث إن هؤلاء الذين ينتهجون السياسة الاحتكارية لم يدركوا أن الدولة هي التي احتكرتهم.
وكانت السياسة التوسعية التي تبناها حزب العدالة والتنمية على الصعيد الخارجي وتعامله مع القضية السورية وغيرها من القضايا الإقليمية سببًا في ظهور ما يسمى بفكرة “العثمانيين الجدد”، وهذه الفكرة أو ما تسمى بـ”تركيا الحديثة” قد أظهرت النوايا الخفية لدى الحزب الحاكم المتمثلة في تبني الفكر الإمبريالي المعاصر الذي يطمح إلى الاستيلاء على المنطقة بأسرها، كما ظهرت في هذه المرحلة أن الحزب الحاكم لا يعمل من أجل توحيد الأمة والإعلاء من شأنها بل كان همه الوحيد هو فرض سيطرته وزعامته على المنطقة.
هل العدالة والتنمية مشروع أعده الأجانب؟
22 ديسمبر/كانون الأول (2014م)
قد أدلى زعيم حزب “الوسط (Merkez)” التركي الدكتور “عبد الرحيم قارصلي (Karslı)” في وقت سابق بتصريحات صادمة خلال برنامج أذيع على قناة (+1) التركية؛ حيث نقل عن السيد “عبد الرحمن ديليباك (AbdurrahmanDilipak)” الكاتب الصحفي المعروف والمقرّب من الرئيس “رجب طيب أردوغان” قوله: “إن “حزب العدالة والتنمية” أسّسته الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل كمشروع سياسي، فهذه القوى التي دعمت الحزب عند تأسيسه قدمت له ثلاثة وعود وهي:
أولًا: مساندة حزب العدالة والتنمية لوصوله إلى سدة الحكم في تركيا.
ثانيًا: القضاء على جميع العقبات التي تواجهه أثناء إدارة البلاد.
ثالثًا: تقديم الدعم المالي.
وفي مقابل ذلك طلبت هذه القوى الثلاثة من حزب العدالة والتنمية تنفيذ ثلاثة بنود أساسية وهي:
أولًا: العمل على حماية أمن إسرائيل ومساندتها بما يلزم لإزالة العقبات التي قد تواجهها في المنطقة.
ثانيًا: تنفيذ أهداف “مشروع الشرق الأوسط الكبير” أي تغيير الحدود وإعادة بلورة الشرق الأوسط عن طريق إعادة رسم الخريطة السياسية التي تعززها الأحداث والصراعات التي تمر بها المنطقة حاليًا.
ثالثًا: مساندة القوى العالمية في تشويه صورة الإسلام من خلال تقديم الدعم للتنظيمات المتطرفة في المنطقة.
والحقيقة أن ثمة سببين رئيسيين وراء كتابتي في هذا الموضوع؛ أمّا السبب الأول فيتمثل في أن السيد “قارصلي” قد أشهدني في تصريحاته التي أدلى بها في القناة سالفة الذكر، حيث تلقيت عشرات الرسائل بالبريد الإلكتروني التي تستفسر عما إذا كان الموضوع صحيحًا أم لا بعد تداوله عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الحقيقة كنت أنوي عدم الكتابة عن هذا الموضوع لكن عندما أكّد السيد “ديليباك” بنفسه صحة التصريحات المثيرة التي نقلها عنه السيد “قارصلي” وذلك في اتصال هاتفي جرى بينه وبين الكاتب الصحفي المعروف “أونال طانيق (ÜnalTanık)”، رئيس تحرير الموقع الإخباري “روتا خبر (Rotahaber)”، قررتُ بعدها مباشرة الشروع في الكتابة عن ملابسات الموضوع، والسبب الثاني هو الضرورة التي تمليها علينا الكتابة من أجل الوقوف على أسباب التخبط والسجال الحادث بين حكومة حزب العدالة والتنمية والغرب متمثلًا في دول الاتحاد الأوروبي. نعم، كنتُ حاضرًا في ذلك الاجتماع الذي ألقى فيه السيد “عبد الرحمن ديليباك” -الذي تربطني به صداقة منذ أربعين عامًا- كلمة أمام مجموعة من الناس تحدث فيها أن “حزب العدالة والتنمية” قد أسس كمشروع أجنبي، وفيما يلي سأتناول هذا الموضوع الهام:
لقد توافد عدد من المسؤولين الأمريكيين إلى تركيا بدءًا من عام (1998م) للاجتماع مع عدد من الساسة الأتراك للبحث عن سبل إمكانية تأسيس سلطة سياسية في تركيا تكون لديها أرضية دينية قوية، وفي تلك السنوات كنت أقول في كثير من المحافل عند تحليلي التطورات التي تشهدها البلاد في تلك المرحلة؛ إن تركيا بصدد مرحلة سيلعب فيها أنصار الإسلام السياسي أو الفئة المتدينة من الشعب التركي دورًا محوريًّا وحاسمًا، ولا يمكن للمجتمع التركي أن يحل مشكلاته المزمنة من خلال العقلية القديمة التي باتت لا تسمن ولا تغني من جوع، فتركيا بصدد تغير في البنية السياسية كمنطقة الشرق الأوسط، كما قلت مرارًا إنه يجب على الدول الغربية أن تحترم الدين الإسلامي ونمط حياة المسلمين وجميع ثرواتهم، فأما نحن المسلمين فيجب علينا عدم قتال هؤلاء الغربين ولكن لا يعني ذلك أننا نخضع للسياسات الاستعمارية والتحكمية التي يتبعها الغرب في بلادنا، وأكدت كذلك أنه يجب تقليص نفوذ إسرائيل في المنطقة والعمل على الحد من ممارسات توسيع المستوطنات اليهودية في المنطقة، كما يسمح بتوزيع ثروات المنطقة بين أصحابها بصورة عادلة، وألا يعرقل السياسات التي يجيزها الإسلام.
ولا بد أن أؤكد هنا أنني لست ناشطًا سياسيًّا أو لدي طموحات سياسية، غير أن السيد “دليباك” عُرف عنه منذ وقت طويل أن لديه خططًا سياسية يمكن تنفيذها على المدى البعيد، وفي تلك المرحلة أقصد بذلك فترة قبيل تأسيس “حزب العدالة والتنمية، قد أعدَّ السيد “دليباك” مشروعًا سياسيًا يمكن تنفيذه في تركيا، حتى إنه عرض هذا المشروع على المسؤولين الكبار من رجال الدولة آنذاك، وعندما علم المسؤولون الأمريكيون الموجودون في تركيا في تلك الفترة لإجراء مباحثات مع بعض الشخصيات السياسية من أجل الغرض الذي ذكرناه آنفًا سرعان ما ركَّزوا على هذا المشروع وقاموا بلقاءات مع شخصيات غير الشخصيات التي اجتمعوا معها من قبل، هذا ولم يمض وقت طويل حتى فوجئ السيد “دليباك” أن المشروع الذي أعده قد تشكل في صورة “حزب العدالة والتنمية” مع بعض التعديلات، وما حدث فيما بعد نعرفه جميعًا…
وفي الحقيقة إن المسؤولين الأمريكيين قد عرضوا مشروعهم الكبير في الشرق الأوسط على الزعيم السياسي الراحل “نجم الدين أربكان” في البداية أثناء توليه رئاسة الوزراء إلا أنه رفض هذا العرض، وفي لقائي الأخير مع السيد “أربكان” قبيل وفاته تحدث إليّ عن مراحل تأسيس حزب العدالة والتنمية كما أطلعني على بعض الوثائق التي تثبت أن هذا الحزب تم تأسيسه من أجل تنفيذ المشروع الأمريكي الكبير في الشرق الأوسط، كما شهد هذا اللقاء السيد “أرتان يوليك (ErtanYülek)” نائب رئيس حزب “السعادة” الذي يعتبر من الشخصيات المقربة من الزعيم السياسي الراحل “أربكان”.
كما أكد السيد “دليباك” في كلمته التي ألقاها في منزل السيد “قارصلي” أن “حزب العدالة والتنمية قد تم تأسيسه على النحو المذكور إلا أن السيد “أردوغان” يدير سياساته الآن مستقلًّا عن القوى الكبرى”.
إن القرّاء الذين يتابعون مقالاتي في صحيفة “زمان” التركية يعرفون جيّدًا أنني أعارض من اليوم الأول سياسة حزب العدالة والتنمية القائمة على مشروع الشرق الأوسط الكبير، وأنني كتبت في كثير من مقالاتي السابقة أن الوعود التي اتفق عليها الطرفان عند تأسيس الحزب والتي تتعلق بمصير إسرائيل ومنطقة شرق الأوسط ثقيلة جدًّا يصعب تنفيذها على أرض الواقع، كما دافعت عن إمكانية انتهاج سياسة إقليميّة دون تقديم أية وعود إلى الجهات الأجنبية، وأرى أن الدولة التركية لا يمكن أن تخطط سياساتها على الصعيدين الإقليمي والدولي معتمدة على القوى الكبرى في جميع العهود والأزمنة ولكن طريقة التخلص من هذه القيود لا تعني قبول جميع الشروط التي تقدمها هذه القوى في البداية ثم محاولة الاستقلالية عنها.
وقد كتب في وقت سابق الكاتب الصحفي التركي “محمد علي بولوط (MehmetAliBulut)” في مقالته التي نشرت في الموقع الإخباري لـ”القناة السابعة” التركية بتاريخ 11 يناير/كانون الثاني (2014م) أن السيد “أردوغان” طلب من السيد “محسن يازجي أوغلو (MuhsinYazıcıoğlu)” الزعيم الراحل لحزب الاتحاد الكبير الذي لقي مصرعه في حادث طائرة مروحية أثناء حملة الانتخابات المحلية التي أجريت عام (2009م) وهناك شكوك قوية في أنّ ذلك الحادث مدبّر لقتله، حيث جرى بينهما الحديث التالي؛ قال السيد “يازجي” لـ”أردوغان”: يا أخي العزيز إن الخبرة التي اكتسبتها خلال عملي السياسي والأحداث التي اطلعت عليها خلال هذه الفترة علمتني أن الخطة السياسية المبنية على الدعم الأمريكي لا تثمر نتائج مرجوة، إذا اعتمدْتَ في سياساتك سواء المحلية والإقليمية والدولية على الشعب فستجدني أقف معك وإلا فاعلم أن الأمريكيين لا يراعون في سياساتهم التي ينفذونها عبر حلفائهم إلا مصالحهم الشخصية فقط، وعندما رد عليه السيد “أردوغان” بقوله: “إننا سننفذ ما يطلبه منا الأمريكيون في البداية ثم نتبع السياسات التي هي لمصلحة الشعب التركي، وإذا حاول الأمريكيون منعنا لن نبالي بهم ونمضي في طريقنا” قال السيد “يازجي”: “إن الولايات المتحدة الأمريكية ليست من بين القوى في العالم التي يمكن خداعها وعدم المبالاة بها، ولا تنس أن مَن يدخل الحلبة مع الفيل يخرج منها مسحوقًا”، ثم أبدى السيد “يازجي أوغلو” لـ”أردوغان” رفضه المشاركة معه في هذا المشروع.
لا شك أنه من غير المتصور أن يتمكن الحزب الحاكم في تركيا من إعلان استقلاليته وتحديه للنظام العالمي وهو الذي تلقى دعمًا ماديًّا ومعنويًّا من القوى العالمية، فلا يزال الشعب التركي يدفع فاتورة باهظة الثمن جراء طموحات الحزب الحاكم في إسقاط نظام الأسد في سورية وإعلانه أن الشؤون الداخلية السورية تدخل ضمن الشؤون الداخلية التركية وافتخاره بأن المسؤولين الأتراك سيؤدون صلاة الجمعة بعد أسابيع قليلة في الجامع الأموي الكبير في دمشق مما يذكرنا باحتلال الرئيس العراقي الراحل “صدام الحسين” للأراضي الكويتية زاعمًا أن الكويت جزء لا ينفك عن العراق…
سيل المصائب!
25 ديسمبر/كانون الأول (2014م)
أدلى النائب بالبرلمان التركي عن حزب العدالة والتنمية “بُولَنْت تُورَان (BülentTuran)” بتصريح خاص في وقت سابق حول مقالتي التي نشرت في جريدة “زمان” التركية والتي تحمل عنوان “هل العدالة والتنمية مشروع أعده الأجانب؟”، وقد وعدت نفسي وقرّائي أن أردّ على كل مَن ينتقدني بأدب واحترام ملتزمًا بالآداب الإسلامية، ولقد وجَّه السيد “توران” إليّ أسئلة بأسلوب مهذب ومحترم، وسأجيبه وأبيّن له في النقاط التالية المقاصد التي كنت أرمي إليها من تلك المقالة:
أولا: إنني لم أدَّع في تلك المقالة أن حزب العدالة والتنمية هو نتاج لمشروع سياسي أجنبي، بل طرحت سؤالًا مفاده “هل حزب العدالة والتنمية مشروع سياسي أجنبي؟”، وكان هذا عنوان المقال، وأما مَن ادعى أن حزب العدالة والتنمية هو مشروع خارجي فهو الكاتب المعروف بميوله المؤيدة للحكومة السيد “عبد الرحمن ديليباك”، وفي الأيام التي كتبت فيها هذه المقالة كان هناك حديث يتم تداوله بين ألسنة الناس حول كلمات قالها السيد “ديليباك” في منزل رئيس حزب الوسط “عبد الرحيم قارصلي” مفادها أن حزب العدالة والتنمية مشروع أعده الأجانب، وأما أنا فبعدما أكدت صحة الكلمات التي قالها “ديليباك” أمام أشخاص يتراوح عددهم ما بين سبعة أو ثمانية استمعوا إليها باندهاش، نقلتُها إلى مقالتي دون أن أضيف إليها كلمة واحدة.
وفي الأيام التي نشرت فيها المقالة علمت أن السيد “ديليباك” قد غضب منّي، فأخبرته على الفور أنني مستعد لنشر تصحيحاته التي سيرسلها إليَّ إذا كانت مقالتي تحتوي على أخطاء في حقه، ورد عليَّ بقوله “أن جريدة “زمان” سترفض نشرها، وعلى ذلك قلت له: إذا لم تقبل الجريدة نشر هذه التصحيحات فإنني سأنشرها في مقالاتي القادمة غير أنه أفادني بأنه “لا داعي لذلك”، وللأسف، فإن صداقتنا الممتدة لأربعة عقود قد تضررت كثيرًا جراء الأحداث الأخيرة التي تمر بها تركيا، بل هناك كثير من الأصدقاء والأُسَر قد تضررت علاقاتهم خلال هذه الوتيرة، ولا شك أن الشعب التركي يمر بمرحلة حرجة في تاريخ جمهوريته الحديثة الممتد لأكثر من قرن من الزمان إذ تمطر على الناس المصائب والبلايا من كل جانب كعقاب إلهي.
ثانيًا: إنني على علم بالتطورات التي جرت أثناء تأسيس حزب العدالة والتنمية وهذا ما يمنعني من القول “إن حزب العدالة والتنمية ظهر كمشروع أجنبي”، وأقول منذ وقت طويل إن حزب العدالة والتنمية ظاهرة اجتماعية، ولقد ألفت كتابًا باللغة التركية يتألف من 450 صفحة عن هذا الموضوع، وباختصار شديد إنني أقول إن حزب العدالة والتنمية قد نشأ كظاهرة اجتماعية سياسية في مواجهة القوى العميقة التي تمسك بمفاصل الدولة، وهو حزب يمثل جميع فئات المجتمع، وهذا الحزب يحافظ إلى حد ما على خصوصيته هذه حتى الآن.
ثالثًا: لكن القوى العالمية المتمثلة في الولايات المتحدة، وبريطانيا، وإسرائيل التي تسعى لتحويل جميع التوجهات الاجتماعية والسياسية في تركيا لخدمة مصالحها، فرأت الاستفادة من هذه الظاهرة الاجتماعية، ولهذا تواصلتْ مع شخصيات معينة من الحزب، والسيد “ديليباك” المعروف بموالاته لحزب العدالة والتنمية يقول حديثًا مثيرًا للاهتمام في هذا الصدد حيث يلقي الضوء على الأحداث التي جرت عقب تأسيس حزب العدالة والتنمية حيث يقول:
“بينما كنا نتفاوض مع القوى العالمية ولدينا القدرة على المساومة إذ فوجئنا بأن أفرادًا من الحزب قد تواصلوا مع هؤلاء للحصول على الدعم مقابل تنفيذ مصالحهم المتوسطة وطويلة المدى”.
والأقوال التي أوردتها في تلك المقالة نقلًا عن الزعيمين الراحلين “نجم الدين أربكان” و”محسن يازيجي أوغلو” تؤكد صحة ادعاء السيد “ديليباك”.
رابعًا: ما أعترض عليه من وقت طويل هو الدور الذي تضطلع به تركيا في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير، فمشروع الشرق الأوسط الكبير يهدف إلى تغيير خريطة المنطقة، هذا فضلًا عن تغيير الأنظمة الحاكمة بالمنطقة، وينص المشروع على:
أ. ألَّا تكون هناك أية دولة قوية ومؤثرة في المنطقة سوى إسرائيل، وأطرح سؤالًا في هذا الصدد: هل هناك دولة أقوى من إسرائيل في منطقة الشرق الاوسط في الوقت الحالي؟
ب. سينفى جميع الفلسطينيين إلى وسط الأراضي العراقية والأردن، أليس تقسيم العراق وسورية إلى ثلاثة أجزاء والذي نراه اليوم دليل على أن مشروع الشرق الأوسط الكبير لديه طموحات في المنطقة؟ وهناك سؤال آخر يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد وهو: مَن أصرّ على صدور تصريح من البرلمان التركي يسمح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي التركية لغزو العراق عام (2003م)؟ ومَن أوصل سورية إلى ما هي عليه الآن؟
جـ. يهدف المشروع لتأسيس دولة “كردستان” في المنطقة على أن يكون “مسعود بارزاني” و”عبد الله أوجلان” لهما دور في هذه الدولة دون أن يكون لهما سيطرة بشكل كامل على زمام الأمور في هذه الدولة، فهناك حديث في تركيا يدور حول “الحكم الذاتي” الذي لا نعرف ماهيته حتى الآن ولكن هذا الوضع يسوقنا إلى السؤال التالي: هل “إقليم كردستان العراق” هو خطوة لتأسيس دولة كردية في المنطقة، وهل حماية القوات الجوية الأمريكية ثلاث مقاطعات في سورية والمساعدات اللوجيستية التي تقدمها تركيا لهذه المقاطعات تخدم هذا المشروع؟ أم هناك طموحات لتأسيس دولة كردية في جنوب شرق تركيا وهل ما لاحظناه من تقوية “الإدارات المحلية” في جنوب شرق تركيا أثناء “مفاوضات السلام” التي جرت بين الحكومة التركية وبين الأكراد كانت تخدم هذا المشروع؟
د. يستند جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير إلى بُعد اجتماعي ثقافي؛ إذ يهدف المشروع إلى التلاعب بنسيج المجتمع المسلم، ويستغلون في ذلك منظمات المجتمع المدني ذات الطابع المتدين، والمنظمات المدافعة عن حقوق المرأة والتعليم وحقوق الإنسان كوسيلة للوصول إلى مآربهم، ولا شك في أن وتيرة الانحلال التي أصبح عليها المجتمع والأسرة كافية لتبرهن لنا كيف أن هذا المشروع أصابنا بالضعف، وكيف أنه جرّد الدين من محتواه.
خامسًا: إن حركة “الخدمة” هي ظاهرة اجتماعية، ولم يستطع أحد أن يثبت الاتهامات الموجهة إليها حتى اليوم، ولا شك في أنني أشعر باضطراب شديد بسبب استهداف الحكومة حركة “الخدمة” للقضاء عليها وأطلب منذ اليوم الأول سواء في عمودي في صحيفة “زمان” أو في محافل أخرى تخلي الحكومة عن ممارساتها الظالمة ضد مؤسسات الحركة المدنية؛ وذلك إيمانًا مني أن هذه المشكلة إذا طالت فستفضي إلى إفساد ذات بيننا وهذا بلا شك لن يضر تركيا فحسب بل يضر العالم الإسلامي بأسره.
وأقول في النهاية “والصلح خير”.
اللاجئون السوريون ضحايا لعبة سياسية قذرة
25 أغسطس/آب (2014م)
لقد أعلنت وسائل الإعلام التركية أن ما يزيد على 500 لاجئ سوري غادر الأراضي التركية متجهين إلى الأراضي السورية في 18 أغسطس/ آب (2014م) عقب مظاهرات مخزية قام بها بعض المواطنين الأتراك في مدن “كهرمان مرعش (KahramanMaraş)” و”غازي عنتب (GaziAntep)” و”أضنة (Adana)” و”إسكندرون (İskenderun)” تطالب بمغادرة السوريين الأراضي التركية، وهذه المظاهرات التي وقفت وراءها العناصر الخفية من الدولة العميقة قد تعرَّض خلالها بعض اللاجئين السوريين للضرب والإهانة وتدمير متاجرهم وطردهم من منازلهم، فضلا عن مقتل ثلاثة سوريين في منازلهم.
وعندما دققنا النظر في الأسباب الكامنة وراء هذه المظاهرات وجدنا أن هناك عاملين رئيسيين قد لعبا دورًا محوريًّا في نشوب هذه الأحداث وهما المنظور السكاني والآخر السياسي:
وإذا نظرنا إلى هذه الأحداث المؤسفة من المنظور السكاني وجدنا أن عناصر من الدولة العميقة قد استهدفت من خلال هذه المظاهرات عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم في أقرب وقت ممكن بالإضافة إلى إلحاق الضرر بالحزب الحاكم مستغلة الأوضاع المأساوية التي يتعرض لها اللاجئون السوريون في الأراضي التركية، هذا فضلًا عن أن العناصر العميقة من حزب العمال الكردستاني قد تبنّت الهدف نفسه بُغية الإضرار بمفاوضات السلام التي تجري بين الأكراد والحكومة التركية.
تشير الإحصائيات الرسمية في تركيا إلى أن عدد اللاجئين السوريين على الأراضي التركية المقيمين في المخيمات وخارجها قد بلغ أكثر من مليون ونصف المليون، هذا إضافة إلى أن العراق والأردن ولبنان تحتضن ثلاثة أضعاف أعداد اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا.
إنني على يقين بأن مثل هذه الأحداث في تركيا لا يمكن أن تنفذ دون علم وتوجيه وموافقة من العناصر العميقة في الدولة، ولا أقصد بذلك أن أجهزة الدولة أو المسؤولين الحكوميين لهم يد أو أنهم قصَّروا في واجباتهم مما أدى إلى نشوب مثل هذه الأحداث المؤسفة في البلاد، بل أعتقد أن القوى العميقة المتمركزة في داخل أجهزة الدولة هي التي تقف وراء هذه الأحداث، هذا وقد شهدت مدن تركيا شرقًا وغربًا في فترات معينة مثل هذه الأحداث المؤسفة التي نعتقد أن هذه العناصر الخفية أيضًا هي التي وقفت وراءها.
إن السبب الأساسي الكامن وراء الانزعاج الذي تشعر به القوى العميقة في تركيا إزاء اللاجئين السوريين، والتي ترغب في مغادرتهم البلاد عن طريق الاعتداء عليهم وتنظيم مظاهرات حاشدة ضدهم وشن هجمات على منازلهم وأماكن إقامتهم، هو التخوف من تغيُّر ديموغرافي في البنية المجتمعية التركية لصالح العرب والأكراد في المقام الأول، وخلال حرب الخليج قامت السلطات التركية في تلك الفترة بإنشاء مخيمات شبيهة بالسجون على الحدود العراقية بعيدًا عن المدن التركية لإقامة الأكراد الهاربين من بطش الرئيس العراقي السابق “صدام حسين”، هذا وقد منعت السلطات هؤلاء الأكراد من دخول المدن التركية من أجل الحيلولة دون حدوث اندماج واختلاط بينهم وبين السكان المحليين، ولا شك أن هذه الإجراءات -التي تعرض لها شعب مسلم هرب من ظلم وبطش طاغية- لم تكن جديرة ببلد غالبية سكانها مسلمون، فالحقيقة أن السلطة الحاكمة آنذاك قد خشيت من استقرار جزء من اللاجئين الأكراد في تركيا بشكل دائم ولذلك تم ترحيلهم خارج تركيا بأسرع وقت ممكن.
ولا شك أن وضع اللاجئين السوريين الناجم عن الحرب الأهلية في سورية يختلف إلى حد ما عن وضع اللاجئين الأكراد الذين تدفقوا على الحدود العراقية التركية قبل أكثر من عقدين من الزمان وذلك لسببين، أولهما قد ازدادت البنية الديموغرافية بهؤلاء اللاجئين السوريين الذين يتشكلون من ثلاث فئات رئيسية وهي العرب والأكراد والنصيريون من بين السكان المحليين مما يتنافى مع سياسة التخطيط السكاني التي تتبناها الدولة، ثانيًا: أن السلطات التركية في هذه المرة قد أعلنت وقوفها مع المعارضة السورية، كما أنها أعلنت في وقت مبكر أثناء بداية اندلاع المظاهرات السلمية في المدن السورية عن استعدادها لإنشاء مخيمات للاجئين على الحدود التركية السورية تكفي لإيواء سبعين ألف لاجئ سوري، وكان المسؤولون الكبار من الحزب الحاكم يعتقدون آنذاك أن نظام الأسد سيسقط خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر فقط، كما اعتقدوا أن أعداد اللاجئين لن تزيد على 100 ألف لاجئ كحد أقصى، غير أن الأحداث الجارية فيما بعد قد أظهرت عكس هذه التوقعات تمامًا، حيث إن نظام الأسد لا يزال قائمًا فضلًا عن أنه أسس علاقات ثنائية وثيقة مع الدول الغربية بدعوى أنه يحارب تنظيم داعش الإرهابي، فيما تجاوز عدد اللاجئين السورين في الأراضي التركية خمسة عشر ضعف ما توقعته الحكومة التركية سابقًا.
وبغض النظر عن العمليات التي تمارسها العناصر العميقة في الدولة ضد اللاجئين السوريين في تركيا هناك بعدٌ آخر للمسألة يهم الشعب التركي بشكل عام، وهذا البعد له أهمية كبيرة وذو مغزى عميق لا يقل أهمية عن الجانب الأول للمسألة، حيث لاحظنا خلال هذه الأحداث المؤسفة والمظاهرات غير السلمية التي تعرض خلالها اللاجئون السوريون للضرب والإهانة فضلًا عن حرق متاجرهم وأماكن إقامتهم أن هناك للأسف الشديد فئة من المجتمع التركي لا تعترف بقيم التسامح والاحترام ونصرة الجالية الأجنبية المقيمة في أراضيها، وفي هذا الصدد يتبادر إلى ذهني العنصريون الألمان الذين شنوا هجمات إرهابية ضد الجالية التركية في ألمانيا ولكن هذه الهجمات كانت على نطاق ضيق حيث لم نر الشعب الألماني وهو يحتشد في شوارع ألمانيا ليشن هجومًا على الأتراك المقيمين في بلادهم حتى الآن ولم يطارد الشعب الألماني الأتراك بالعصيّ في شوارع “برلين”، وللأسف فإن التعصب والعنصرية والفاشية التي تؤجج أوارها الدولة العميقة في تركيا على المستوى الرسمي منذ مائة عام قد لاقت ترحيبًا من قبل فئة معينة من الشعب التركي.
وفي سبيل حل هذه المسألة يجب على الحكومة التركية أولًا وقبل كل شىء أن تركز على المعنى العميق لهذه الهجمات ضد السوريين، كما يجب على مؤسسات المجتمع المدني في تركيا تحمل المسؤولية تجاه اللاجئين السوريين انطلاقًا من فكرة الأخوة في الدين والإنسانية، وإلا فإن الشعبين التركي والسوري ستسوء علاقتهما لمئات السنين، وبكل تأكيد هناك مؤسسات مدنية في تركيا تعمل بكل إخلاص من أجل تقديم المساعدات الإنسانية للاجئين السوريين، هذا ويجب على الشعب التركي دعم هذه المؤسسات كما ينبغي لهم في الوقت ذاته أن يظهروا الوعي نفسه إزاء التركمان واليزيديين الذين يحاولون النجاة بأرواحهم.
بأيِّ ذنبٍ؟…
5 سبتمبر/أيلول (2015م)
يقول الله ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾
كلّما تذكرتُ صورةَ الطفل “آيلان” الذي قذفته أمواج البحر إلى شواطئ مدينة “بودروم (Bodrum)” جنوب غرب تركيا تذكرتُ هاتين الآيتين، فآيات سورة التكوير تصور لنا أحوال الآخرة عمومًا إلا أنها تشير إلى حوادث الدنيا أيضًا، ويلي هاتين الآيتين قولُه تعالى في الآية العاشرة: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ أي صحف أعمال البشر في الدنيا.
ثمة قوانين إلهية نافذة في حياتنا الاجتماعية على مدى التاريخ، وهي كالقوانين الطبيعية التي تسيِّر النظام الكوني؛ وكلا هذين النوعين من القوانين يُسمى بـ”السنن الإلهية”، وهذه القوانين تنعكس في بعض الحكم والأمثال الشعبية، مثلًا هناك حكم شهيرة تتداول في أفواه الناس مفادُها “ما من ظالم إلا يُقتصّ منه للمظلوم”، يقابله المثل “إن ظلمت أحدًا وقال آه بألم لا بد أنك ستتألم مثله إن عاجلًا أو آجلًا” أو “إن أنين المظلوم يهزُّ عرش الرحمان”.
إن الحرب الأهلية السورية التي بدأت بتحريض من القوى الخارجية بدعوى أن رئيسها ظالم وطاغية والشعب السوري يتعرض للظلم ويُمنَعُ من الحرية والديمقراطية قد أسفرت حتى الآن عن مقتل قرابة ربع مليون شخص، فضلًا عن نزوح الملايين إلى الدول القريبة والبعيدة، وأصبحت سورية الآن مفتتة، وثمة قوتان أساسيتان تسببتا بالأزمة السورية؛ الأولى هي القوى العظمى التي تعمل على تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يهدف إلى عدم إبقاء أية دولة للمسلمين أكثر فاعلية وقوة من إسرائيل في المنطقة، أما القوة الثانية فهي الدول التي تخاف من امتداد ثورات الربيع العربي إليها، هذا ولا يمكن أن نقلل من الدور الإيراني في تفاقم الأزمة في سورية، ولكن لا بد من الاعتراف كذلك أن موقف الحكومة التركية حيال الأزمة السورية كان خاطئًا جملةً وتفصيلًا حيث إن انتهاج الحكومة سياسة الإستيلاء على المنطقة مجددًا، وإفصاحها عن طمعها في المنطقة بأقوال المسؤولين الحكوميين خير دليل على ذلك، إذ صرح المسؤولون في تركيا في بداية الأزمة السورية بقولهم: “إن سورية مسألة داخلية بالنسبة لنا، وسيسقط نظام الأسد خلال ثلاثة أشهر، وسنصلي الجمعة في جامع بني أمية الكبير في دمشق، وسنعود لبسط سيطرتنا على المنطقة”، وقد كتبتُ منذ اليوم الأول من اندلاع الأحداث في سورية عما يمكن أن تجرّه هذه السياسة الخاطئة من كوارث حيث قلتُ:
ليس بإمكان الحكومة التركية إسقاط نظام الأسد الذي يحظى بدعم اجتماعي داخلي، وإقليمي، ودولي.
إن الأسلوب الصحيح في التغيير ليس هو “الخروج على الحاكم”، بل “التمكين” الذي يعتمد على التغيير على المدى البعيد.
إنْ حاولت الحكومة إسقاط الأسد بالقوة فإن سورية ستتمزق وستنشب حربٌ أهليةٌ تطال ملايين المظلومين.
إن معظم الحركات الإسلامية في تركيا قد وقفت مع الحكومة التركية في سياستها حيال الأزمة السورية التي لم تكن تستند إلى معلومات دقيقة حول الأوضاع هناك والتي تهدف في الأساس إلى الهيمنة والسيطرة على المنطقة ليس إلا، وكانت تركيا قد وقعت في الفخّ الذي نصبه الغرب والدول التي وعدت بضخّ النفط والدولارات؛ وذلك بدلًا من أن تقوم تركيا بدور المصلح، وتلعب دور الحكم بين الأطراف المتنازعة في سورية وتعمل على رأب الصدع هناك، والدعوة إلى الصلح والصلاح بوصفها دولة متأنية وذات خبرة سياسية عميقة… بدلًا من هذا كله عملت على تفاقم الأزمة السورية من خلال تقديم الدعم إلى بعض الأطراف في سورية للقتال ضد النظام الحاكم هناك.
فاليوم نجد أن هذه السياسة قد انهارت بشكل كامل، إلا أنه ما زال هناك بعض الساسة من الحزب الحاكم يدافعون عن الموقف التركي حيال القضية السورية، فالحقيقة يكفينا خجلًا ما يتعرض له السوريون الذين يلجؤون إلى مختلف دول العالم هربًا من بطش الأسد والتنظيمات المعارضة، وكان المسيحيون يقولون في فترة من التاريخ: “إننا نفضل رؤية العمامة التركية على رؤية القلنسوة اللاتينية في الحكم”، ولكن انقلبت الأمور اليوم إذ نرى المستضعفين من المسلمين اليوم يفرون من الأنظمة والتنظيمات المعارضة في بلدانهم ويلوذون برحمة الدول الغربية.
يا أيها المسؤولون! لماذا تلومون كل يوم الدول الغربية وتحملونها المسؤولية الكاملة لما يحدث في سورية، أليس لكم أي مسؤولية لما وصلت إليه سورية اليوم، كونوا على يقين أن خطاباتكم الحماسية باتت لا تؤثر في وجدان الناس ولا تستطيع إضلال الرأي العام…!
إن محاسبتكم أمام الله على الطفل “آيلان” الذي غَرق في البحر لن تختلف عن محاسبة عرب الجاهلية على وأدِ بناتهم وهنّ أحياء، فاقتران الآية التي ذكرناها في مطلع حديثنا والتي تحدثت عن الوأد في اليوم الآخر يثير الخوف لدى الإنسان، صحيح أنكم استطعتم في هذه الدنيا من خلال قوتكم وجبروتكم ووسائل الإعلام الضخمة التي تروِّج ليل نهار أن السياسات التي انتهجتموها في القضية السورية لم تكن خاطئة محمِّلة المسؤولية لما يحدث في سورية على عاتق الرئيس السوري “بشار الأسد” ومعلنةً للجميع أنكم كتبتم أعظمَ الملاحم الإنسانية في التاريخ البشري بفتحكم الحدود أمام اللاجئين السوريين، والقوانين التي أصدرتموها من البرلمان بفضل أغلبيتكم والتي تستخدمونها كوسيلة لإلقاء الرعب في قلوب معارضيكم، ولكن قوتكم الإعلامية وقوانيكم لن يجديا نفعًا عندما تُنشر الصحف التي كتبت بيد “الكرام الكاتبين” دون زيادة ولا نقصان، وعندئذ ستسألون عن كل قتيل مظلوم، كما ستسألون عن الطفل “آيلان” وغيره من الأطفال الذين غرقوا في البحر، كما ستكون هنالك محاسبة على تفضيل وتقديم الإستراتيجيات والحسابات الوطنية على الإيمان.
هذا ما يتعلق باليوم الآخر، وأما في الدنيا إذا أردنا أن نفهم سر القول “ما من ظالم إلا يُقتصّ منه للمظلوم” علينا أن ننظر إلى انجراف بلادنا نحو حرب أهلية، ولا شك أن من أسباب تعرُّض بلادنا للمصائب والبلايا في الآونة الأخيرة هي دعوات المظلومين السوريين وأنينهم التي ترتفع إلى السماء السابعة والتي تهز عرش الرحمن، وأسأل الله تعالى أن يبعد عن بلادنا البلايا والمصائب ويعصمنا منها، آمين…
إعفاء الإسرائيليين من التأشيرة وفرضها على الفلسطينيين
28 مايو/أيار (2015م)
تظاهر بعض أبناء الجالية الفلسطينية في تركيا يوم 15 مايو/ أيار عام (2015م) أمام القنصلية الإسرائيلية في إسطنبول في الذكرى السابعة والستين لقيام دولة إسرائيل والتي يسمونها بـ”ذكرى النكبة”.
وأدلى المشاركون في الوقفة بتصريح انتقدوا فيه مطالبة السلطات التركية للفلسطينيين بالحصول على التأشيرة لدخول تركيا في حين أنها تعفي الإسرائيليين من ذلك ولا تفرض عليهم التأشيرة، ونشرت وكالتا “دوغان” و”جيهان” التركيتان للأنباء الخبر الخاص بانتقادات الفلسطينيين ونقلتا عنهم قولهم: “إننا نطالب السلطات التركية بإلغاء الإجراءات القانونية التي تستلزم حصول الفلسطينيين على تأشيرة لدخول الأراضي التركية وذلك من أجل إعادة سمعة الفلسطينيين ومكانتهم، مؤكدين أنه يجب إعفاء الفلسطينيين من هذه التأشيرة بدلًا من الصهاينة، كما أعربوا عن استيائهم لتجول مواطن إسرائيلي في الأراضي التركية دون أن يحتاج إلى تأشيرة في حين يفرض على الفلسطيني التاشيرة ويمنع من دخول الأراضي التركية بكل حرية كمواطن إسرائيلي.
وقد تطرقت إلى هذه المسألة في إحدى مقالاتي المنشورة في جريدة “زمان” التركية بتاريخ يوم 25 مايو/ أيار (2015م) وقلت “إن تركيا لا تفرض تأشيرة الدخول على الإسرائيليين، فهم يتمكنون من القدوم إلى تركيا في غضون ساعات إذا ما أرادوا ذلك، لكن لماذا لا تعفي الحكومة التركية الفلسطينيين من هذه التأشيرة؟ بل دع عنك ذلك فهناك إجراءات عديدة تجعل إمكانية حصول فلسطيني عادي على تأشيرة دخول تركيا أمرًا مستحيلًا، فعلى سبيل المثال من ضمن الشروط التي يجب توافرها لحصول مواطن فلسطيني على التأشيرة:
أ- أن يكون لديه حساب بنكي يتراوح قدره ما بين ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف دولار أمريكي.
ب- أن يقدم إلى السلطات التركية تقريرًا طبيًّا.
ج- موافقة أمنية، تثبت عدم تورطه في أي عملية إرهابية.
علمًا بأن السلطات الإسرائيلية يمكن أن تصنف شخصًا فلسطينيًّا ضمن “المطلوبين في قضية إرهابية” إذا شارك في عملية إلقاء حجارة على جنودها أو حتى نظر نظرة اشمئزاز إلى جندي من جنودها، وفي هذه الحالة لا يمكن لمواطن فلسطيني أن يحصل على موافقة أمنية، أما بالنسبة للطلبة، فتفرض السلطات التركية عليهم الحصول على “شهادة القبول” من الجامعة أو المدرسة التي ينوي الطالب الفلسطيني الدراسة فيها.
ومن أجل التنديد بهذه الإجراءات التي تعرض لها الفلسطينيون المقيمون في الأراضي التركية نظموا المظاهرة التي تحدثنا عنها في بداية الموضوع.
وفي هذا الصدد أريد أن أوجه سؤالًا إلى المناصرين للحزب الحاكم وخاصة الكتّاب والصحفيين منهم: يا أيها الكتّاب المناصرون للحكومة التركية: ما تفسيركم لهذا الوضع؟ ففي الوقت الذي تستمر فيه العلاقات التجارية والدفاعية والاقتصادية مع إسرائيل على أعلى مستوى يُمنع الفلسطينيون من زيارة تركيا! هل ما زلتم تصدقون أن تباكي بعض المسؤولين الحكوميين الأتراك أمام شاشات التلفاز من أجل العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين ينبع من أعماق القلب؟!
أما سبب كتابتي عن هذا الموضوع فهو المظاهرة التي نظمها الفلسطينيون في إسطنبول بينما كنت أنا في زيارة إلى مدينة القدس، وإلى ذلك الحين لم يكن لدي معلومة حول فرض السلطات التركية التأشيرة على الفلسطينيين، وقد توصلت إلى تلك المعلومات التي ذكرتُها أعلاه حول شروط التأشيرة والمعلومات الأخرى المتعلقة بهذه المسألة من إخوة فلسطينيين موثوق بهم، ومع ظهور هذه الحقائق الجلية أمام الجميع إلا أنني أتلقى في هذه الأيام انتقادات شديدة اللهجة من قبل الكتّاب الموالين للحزب الحاكم حيث يكتب بعض من هؤلاء في مقالاتهم المنشورة في الصحف الموالية للحزب الحاكم أنني رجل مفتر وكذّاب!
إن السطور التي أنقلها أدناه هي انطباعات لمراسل جريدة “زمان” “سركان صاغلام (SerkanSağlam)” الذي يتابع المسألة الفلسطينية عن كثب منذ وقت طويل حيث يقول “صاغلام”:
“من يرغب في زيارة تركيا من أهل غزة عليه أن يتقدم بطلب في البداية إلى القنصلية التركية في القدس، ولو جاءه رد إيجابي بعد فحص يستمر لشهور، يستطيع أن يسافر إلى الأراضي التركية عبر معبر رفح المصري، أما الفلسطينيون المقيمون في الضفة الغربية فيستطيعون عقب إتمام إجراءات التأشيرة أن يسافروا إلى تركيا إما عن طريق الأردن أو عن طريق إسرائيل لو كان لديهم إذن بذلك.
إنني أعوذ بالله من الافتراء على أحد، فاليوم في ظل أجواء الصراع التي نعيشها في تركيا لا يتورع البعض عن مهاجمة خصومه بكل الوسائل، رغم أن الكذب والافتراء من الخصال المنكرة المستقذرة التي أنأى بنفسي عنها وإن كانت لأعتى أعدائي.
وفي هذا الصدد فإنني أطالب وزارة الخارجية التركية بإصدار بيان مفصل لهذه المسألة ترد فيه على الأسئلة التي تشغل أذهان الناس مثل؛ هل تفرض السلطات التركية تأشيرة دخول على بعض الفلسطينيين أو كلهم أم لا؟ ولو أن هناك إجراء كهذا فما هي شروط الحصول على التأشيرة؟ فلو أعلنت وزارة الخارجية التركية أنها لا تفرض تأشيرة دخول على الفلسطينيين القادمين من قطاع غزة والقدس والضفة الغربية وإسرائيل فهذا يعني أن من زودوني بمعلومات حول هذا الأمر في القدس، والفلسطينيين الذين نظموا مظاهرة في إسطنبول يتحدثون خلافًا للحقيقة، وحينها سأعترف بأنني لم أقم بواجبي على النحو الأمثل وسأعتذر للجميع، ولو لم يكن الأمر كذلك فأنا أحيل حساب أولئك الذين نالوا مني بالكلام الكاذب إلى يوم الدين، ذلك أنني سأكون إن شاء الله أنا الرابح في الحساب هناك إن شاء الله تعالى.
وقد نُشرت عدة مقالات لي في جريدة “زمان” التركية يتضمن بعضها انتقادات موجهة إلى الحزب الحاكم بسبب أخطائه في سياسته الداخلية والخارجية، وكل هذه الانتقادات قد استند كل واحد منها إلى دليل قاطع لا يشوبه شك أو ريبة.
وأعوذ بالله من أن أوجه انتقادات لا أساس لها من الصحة من خلال معلومات خاطئة أو كاذبة، فغايتي الوحيدة هي أن تكون تركيا على علاقة جيدة بالعالم ولا سيما العالم الإسلامي، وتهيئة أرضية لإمكانية التكامل الإقليمي على المدى البعيد، فأنا أكتب دائمًا مقالاتي انطلاقًا من فكرة توجيه انتقادات بناءة لأصحاب الأخطاء بغض النظر عن توجهه السياسي أو الفكري وإرشاده إلى الأمور التي أعتقد أنها الصحيحة.
وعودة إلى مسألة القضية الفلسطينية فإذا نظرنا إلى التقرير الذي نشره البنك الدولي نجد أن هناك عدم مصداقية لدى الحزب الحاكم وقياداته في القضية الفلسطينية حيث جاء في هذا التقرير الذي نشره البنك والذي يتضمن أن تركيا التي وعدت بإرسال 200 مليون دولار لأهالي غزة لم ترسل حتى الآن سوى 520 ألف دولار أمريكي فقط ، كما نجد أن المسؤولين والمثقفين الفلسطينيين يؤكدون في تصريحاتهم أن الحكومة التركية توزع من حين إلى آخر الأموال على الفلسطينيين حتى يرددوا هتافات مناوئة لحزب العدالة والتنمية في الشوارع الفلسطينية، وأثناء الزيارة التي قام بها “محمد جورماز (MehmetGörmez)” رئيس الشؤون الدينية التركية إلى المسجد الأقصى في ليلة الإسراء والمعراج في عام (2015م) تظاهر عقب الصلاة في ساحة المسجد الأقصى عدد من المتظاهرين الفلسطينيين مرددين هتافات تندد بإسرائيل وأخرى تنوه بتركيا، وفي تلك الأثناء ظهر شيخ فلسطيني في ساحة المسجد وقال:
“إن هذه التظاهرات لا تخدم القضية الفلسطينية بشيء بل مثل هذه التظاهرات تجلب على الفلسطينيين مزيدًا من الأضرار، إنني على يقين أن الحكومة التركية تستغل مآسي الفلسطينيين في سياستها الداخلية كما أنها توزع مساعدات مالية على الأهالي الفقراء في قطاع غزة ليرددوا هتافات مؤيدة للحكومة التركية، ولا شك أن استمرارية معاناة الفلسطينيين تصب في مصلحتهم الداخلية من أجل استغلالها في ميادين الانتخابات وأمام شاشات التلفاز”.
التجارة مع إسرائيل
26 يوليو/تموز (2014م)
هناك حديث يدور في تركيا عن نشوب أزمة كبيرة في العلاقات التركية الإسرائيلية منذ مقتل عشرة مواطنين أتراك في الهجوم الذي نفذته القوات الإسرائيلية على سفينة “مرمرة الزرقاء” التي كانت تحمل مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة، ولكن في الحقيقة أنه ليست هناك أزمة بين هاتين الدولتين في العلاقات الاقتصادية والتجارية، والدليل على ذلك أن حجم التبادل التجاري بين البلدين 4 مليارات و22 مليون دولار أمركي في عام (2011م) وارتفع في عام (2013م) ليصل إلى 4 مليارات و858 مليون دولار أمريكي، ويرى رئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية في مدينة “إزمير” التركية “أكرم دميرطاش (EkremDemirtaş)” أن “تركيا تعتبر من أهم 10 شركاء اقتصاديين بالنسبة لإسرائيل”، وتأتي تركيا في المركز الخامس بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في تصدير المنتجات إلى إسرائيل، وفي المرتبة السادسة في استقبال الواردات الإسرائيلية، حيث تصدر تركيا إلى إسرائيل الأطعمة والمنتجات الميكانيكية ووسائل التكنولوجيا الحديثة، وفي مقابل ذلك تستورد إسرائيل من تركيا منتجات قطاعات البلاستيك والمطاط والنسيج والخرسانة والسيراميك وآلات الزجاج والسيارات.
وفي تعليقه على الأحداث الراهنة في قطاع غزة صرح نائب رئيس الوزراء التركي السابق “بُولَنْت أرنج” وهو من أبرز الشخصيات في الحزب الحاكم بأن العلاقات التجارية مع إسرائيل مستمرة ولا يمكن انقطاعها.
وإذا حلَّلْنا المعطيات التي يصدرها “معهد الإحصاء التركي (TÜİK)”، نجد أن تركيا توفر المعدات العسكرية التي تستخدمها إسرائيل في الحرب؛ إذ استوردت هذه الأخيرة أسلحة وذخيرة من تركيا منذ عام (2010م) بقيمة إجمالية بلغت نحو 11 مليون دولار أمريكي.
وقد تبين لنا في الآونة الأخيرة أن الأزمة في سورية قد صبت في مصلحة إسرائيل، حيث بدأت تتسارع وتيرة السفن الإسرائيلية العملاقة التي تبحر من ميناء إسكندرون التركي متجهة إلى ميناء “حيفا” الإسرائيلي لتنقل الشاحنات التجارية التركية وتوصلها بذلك إلى البلدان العربية بكل سهولة ويسر، وفي هذا الصدد يقول مسؤول بشركة نقل بضائع إسرائيلية يدعى “جوزيف تاراباني (JosephTarabani)”:
“لقد فتحت أمامنا الأزمة السورية طرقًا جديدة، فالسائقون الأتراك بإمكانهم نقل بضائعهم من تركيا إلى الأردن عبر أراضينا، وكانوا فيما مضى يقومون بذلك عبر سورية”، وتدفع تركيا جزءًا من رسوم شحن هذه البضائع إلى السلطات الإسرائيلية”.
وعلى الصعيد نفسه أرسلت مؤسسة الصناعات الكيميائية التركية خطابًا إلى الغرفة التجارية البحرية بتاريخ 3 سبتمبر / أيلول (2013م) أبلغتها بفتح مناقصة لنقل شحنات مكونة من 31 ألفا و508 قطع ذخيرة دبابات عيار 120 مم من إسرائيل، في حين أن المسؤولين الكبار من الحكومة قد أعلنوا في وقت سابق عقب حادثة سفينة “مرمرة الزرقاء” أن اتفاقيات شراء الأسلحة من إسرائيل قد ألغيت بقرار من الحكومة، كما أعلنت مستشارية الصناعات الدفاعية الوطنية التركية في أبريل / نيسان (2011م) أن تركيا امتنعت عن استيراد الأسلحة من إسرائيل، هذا في الوقت الذي قال فيه رئيس دائرة الدفاع الأجنبية الإسرائيلية العميد “شيمايا أفيلي” قبل فترة قصيرة: “إن صادرات إسرائيل إلى تركيا من الأسلحة لم تتوقف في أي وقت من الأوقات، وهي مستمرة في إطار حماية مصالح دولة إسرائيل، وإذا نظرنا إلى الإحصائيات نجد أن صادراتنا من الأسلحة إلى تركيا لم تتوقف أبدًا، وقد تلقينا كذلك طلبات شراء جديدة من تركيا، ونحن بصدد مناقشتها في الوقت الراهن”.
الأمر لا يقتصر على هذا فقط؛ إذ لا يخفى على أحد أن النفط المنقول إلى تركيا من كردستان العراق، بالرغم من اعتراض حكومة بغداد المركزية، يعبَّأ على ظهر سفن من الموانئ التركية ليباع إلى إسرائيل بطريقة غير مباشرة، ولا تكذِّب رئاسة الوزراء التركية صحة الأنباء التي تتحدث عن بيع نفط شمال العراق إلى إسرائيل بهذه الطريقة، فضلًا عن أن صحيفة “شالوم”، المملوكة للجمعية اليهودية التركية، كتبت في خبر، نقلًا عن صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، إن “أحمد براق أردوغان (BurakErdoğan)” نجل رئيس الجمهورية التركية “رجب طيب أردوغان” لا يزال يواصل علاقاته التجارية مع إسرائيل.
كما أكدت الصحيفة في وقت سابق أن السفينة “زعفران 1” العملاقة، البالغ طولها 95 مترًا والمملوكة لـ”براق أردوغان”، تنقل البضائع بشكل متبادل بين موانئ تركيا وميناء “أسدود” الإسرائيلي، وحسب ما نشره موقع “روتا خبر” الإخباري بتاريخ 22 يوليو (2015م) أن السفن التجارية الأخرى لـ”براق أردوغان” قد ترددت لعدة مرات على المواني الإسرائيلية عقب نشر أخبار في الصحف الإسرائيلية تكشف العلاقات التجارية بين “براق أردوغان” وإسرائيل.
ويتبين لنا مما سبق أن الحكومة التركية التي تتظاهر أمام الشعب التركي بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين بالبكاء حينًا وبالخطاب الحماسي حينًا آخر وتدعو الشعب التركي لمقاطعة البضائع الإسرائيلية ولكنها في ذات الوقت تواصل علاقاتها التجارية مع إسرائيل على أعلى مستوى في الوقت الذي يشهد فيه قطاع غزة والأراضي الفلسطينية أبشع المجازر التي يرتكبها الجنود الإسرائيليون، ونعرف جميعًا أن مسألة المقاطعة لم تؤت أكلها في الفترات السابقة منذ أزمة الكاريكاتير مع “الدنمارك” ومجازر إسرائيل السابقة في غزة، وفي مقابل ذلك نجد أن القوى الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة تفرض عقوبات ظالمة على الدول الإسلامية في كثير من الأحيان، ولا يخفى على أحد المعاناة التي عاشتها إيران والعراق بسبب هذه العقوبات، بحيث فارق مئات الآلاف من الأطفال الحياة في العراق بسبب نقص الغذاء والدواء، فيما تحوّل قطاع غزة منذ سنوات إلى معسكر مغلق.
إن علماء المسلمين لا يجيزون المقاطعة بالجملة، كما لا يمكن تطبيق مبدأ المقاطعة حتى في حالة الحرب إذا ما خُشي على الناس خطر المعاناة من الجوع، بينما يرى الإمام أبو حنيفة أن بيع مواد تستخدم في إنتاج السلاح إلى أعداء المسلمين حرام شرعًا، كما أن الآية 126 من سورة البقرة تشير إلى أنه لا يجوز معاقبة الناس من خلال تجويعهم ومنعهم من المواد الغذائية، وعلى هذا، فإن كانت الحكومة التركية في ضرورة ملحة إلى التجارة مع إسرائيل فلا بد ألا تشتمل هذه التجارة على الأسلحة والذخائر والنفط، كما ينبغي للجمعيات التركية التي تنظم مظاهرات مناهضة لممارسات إسرائيل أن تطالب الحكومة التركية بالحد من تجارة الأسلحة والذخائر والنفط مع إسرائيل!
نظرة مغاربية عربية إلى تركيا!
27 أبريل/نيسان (2015م)
بينما كنت أخرج من قاعة “محمد الخامس” في عاصمة المملكة المغربية “الرباط” جالت بخاطري الأبيات الشعرية التي نظمها الشاعر التركي الراحل “نجيب فاضل قِيصَه كورك (NecipFazılKısakürek)” متأثرًا بما استمعت إليه من “قصيدة البردة” التي أنشدها الأطفال في القاعة، حيث يقول الشاعر ” قِيصَه كورك”:
“أنت غريب في وطنك الأصلي ومنبوذ في أرضك..!” إذ أمسكني من يدي شخص في السبعين من عمره وقال: “ما أسعدنا برؤيتك معنا هنا، ندعو لك أنا وزوجتي كثيرًا، وكان يتحدث والدموع تنهمر من عينيه، وبعد أن انتهى من حديثه شكرت له وسألته عن سبب بكائه، فرد بقوله: “ابني يعمل كمدرس في مدارس “الخدمة” في الجزائر، وبفضل هذا المهرجان الذي نُظِّم هذا العام في الرباط استطعت أن أتقابل مع ابني وزوجته وأحفادي القادمين من الجزائر للمشاركة في هذا المهرجان ولكنني سأفارقهم غدًا لأنهم سيعودون من حيث أتوا، وفي تلك الأثناء قلت في نفسي :”يا الله! يا لها من أرواح سامية تلك التي يمتلكها هؤلاء الأولاد وأسرهم الذين يخدمون الإنسانية في ظل هذه الظروف القاسية والشاقة!”.
وأثناء المهرجان دعاني مقدم الحفل للصعود إلى خشبة المسرح لتقديم جائزة إلى رئيس مؤسسة المجتمع المدني في المغرب، فاستحضرت خلال صعودي إلى خشبة المسرح الكلمة التي سألقيها على السادة الحضور، فاكتفيت بجملة: “إنني أشعر بالخجل عندما أتطلع إلى معاناة هؤلاء السادة والسيدات الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل خدمة الأمة في شتى بقاع العالم”.
وقد أحسست ببالغ السعادة والفرح لمشاركتي في “مهرجان اللغة والثقافة” الذي استضافته العاصمة المغربية الرباط هذا العام بمشاركة الطلاب القادمين من مدارس “الخدمة” من خمس عشرة دولة، وكانت هذه الزيارة بالنسبة لي بمثابة انعزال ولو لفترة قصيرة عن الجو القاسي والصعب الذي نعيشه اليوم في تركيا.
وقد شعر كثير من الناس في تركيا حيال القرار الذي اتخذته الحكومة التركية السابقة بقيادة “رجب طيب أردوغان” والذي بموجبه يتم حظر إقامة “مهرجان اللغة والثقافة” في تركيا، وهذا المهرجان الذي يشارك فيه طلاب مدارس “الخدمة” من شتى بقاع الأرض لِيؤسسوا روح المحبة والصداقة بين جميع الشعوب بغض النظر عن ألوانهم وأعراقهم ومذاهبهم واعتقاداتهم، وأنا كذلك شعرت ببالغ الحزن والأسى حيال هذا القرار المؤسف ولكن ما يسليني في هذا الصدد هو قول الله تعالى: ﴿…وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ…﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/216)، ولا شك أن أبناء الأناضول الذين انتشروا في شتى بقاع الأرض يكتسبون خلال تجاربهم في تلك البلاد منظورًا عالميًّا، تخيلوا معي أن هؤلاء المدرسين العاملين في مدارس “الخدمة” المنتشرة نحو 160 دولة على مستوى العالم يعرفون لغة البلدان التي يخدمون بها كما يطلعون على عاداتها وأنظمتها الاجتماعية، وجميع الخدمات التي يباشرونها من تعليم وتنشئة على أعلى مستوى من التقنية في تلك البلاد وذلك يصب في مصلحة شعوب تلك البلاد، ومن سماتهم الأساسية كذلك احترام الأنظمة، وبطبيعة الحال فإن تلك المدارس تعمل تحت رقابة الدول التي يخدمون بها، فعندما طلبت الحكومة التركية وخاصة السيد “رجب طيب أردوغان” من زعماء الدول إغلاق مدارس “الخدمة” -التي تعمل في تلك البلاد منذ ما يقرب من عشرين عامًا من أجل تعليم أبناء هذه البلدان على أعلى مستوى، ساعية لتنشئة جيل يخدم وطنه وشعبه- مستغلًّا نفوذه السياسي في تلك البلاد وجدنا أن معظم زعماء هذه البلاد لم يُلقوا بالًا لهذا المطلب ولم يأخذوه بعين الاعتبار بل أعربوا عن تأييدهم ووقوفهم مع هذه المدارس.
وأرى أن مشاركة السلطات المغربية في “مهرجان اللغة والثقافة” على المستوى الوزاري ونواب البرلمان بمثابة رسالة لطيفة إلى المسؤولين في تركيا، وما أخبرني به أحد الإخوة القادمين من كردستان العراق يؤكد على ما قلناه أعلاه حيث يقول هذا الأخ الكريم: “إننا نعمل في العراق منذ 21 عامًا، وقبل فترة قصيرة عندما شاعت أخبار في “أربيل” تفيد بأن تنظيم “داعش الإرهابي” على وشك دخول المدينة غادرت الجاليات الأجنبية أماكن عملها في المدينة غير أن المدرسين العاملين في مدارس “الخدمة” هناك عادوا إلى مباشرة أعمالهم في المدارس على الرغم من أنهم كانوا في عطلتهم الرسمية، وبناء على ذلك قام رئيس “إقليم كردستان العراق” بتقديم برقيات الشكر والتقدير إلى المدرسين العاملين في مدارس “الخدمة” قائلًا: “نحن لا يمكننا أن نغفل وقوفكم بجانبنا
في الوقت الذي تخلى عنا الجميع فيه، وكما هي الحال في كل عام فقد توسط بعض رجال الدولة في الإقليم هذه السنة لكي يدرس أبناؤهم في مدارس “الخدمة”، وباختصار فلا أحد يلقي بالًا لمطالبة حكومة حزب العدالة والتنمية بإغلاق مدارس “الخدمة” في تلك البلدان.
إنني خلال هذه الزيارة تمكنت من الاطلاع عن كثب على نظرة العالم العربي إلى التطورات الأخيرة في تركيا، وباختصار فإن أبناء العالم العربي ينظرون إلى تركيا نظرة الرأفة والشفقة ويشعرون بالحزن والأسى على الوضع الذي وصلت إليه تركيا اليوم، فالحديث الذي صرح فيه أحد المسؤولين الكبار من “حزب العدالة والتنمية المغربي” وهو كبير الأكاديميين في بلده عن السياسات الخاطئة التي انتهجها الحزب الحاكم في تركيا، قد أثار بعض النقاط في أذهاننا؛ حيث لخص هذه الأخطاء في النقاط التالية:
أولًا: أضاع ميراث الكفاح الإسلامي المستمر منذ قرون من الزمان، واستغله في سبيل تحقيق الغنى والقوة.
ثانيًا: على الرغم من أن هذا الحزب يستغل التدين في خطاباته مع الناس إلا أنه تبين لنا أنه لا يمتلك أساسًا إسلاميًّا متينًا.
ثالثًا: اتباعه سياسة “إحياء الخلافة العثمانية من جديد” شوه صورة الدولة العثمانية في أذهان الجميع.
رابعًا: حاول التقرب إلى العالم العربي في سبيل السيطرة على المنطقة وهذا نابع عن فكره “الإمبريالي”.
خامسًا: أفسد كل مسألة تدخّل فيها، وتسبب في اندلاع حرب أهلية في سورية التي حوّلها إلى كتلة من الدمار.
سادسًا: عزل تركيا عن العالم بينما كان الجميع ينظر إليها في الماضي بآمال عريضة على أنها نموذج.
سابعًا: أضاع الفرصة التاريخية لتركيا في تحقيق تكامل إقليمي لسنين عديدة.
وللأسف فلا أحد يسامح حزب العدالة والتنمية على سياسته الخاطئة التي انتهجها في سورية على وجه الخصوص، فاللاجئون السوريون نزحوا حتى إلى المغرب!