إن الحضارات التي كانت تُذهِل العقولَ وتَبهر العيونَ بثرائها الثقافي لم تَظهر في روما وأثينا ومصر أو بابل فجأة من غير مقدمات.
إن الثقافة في كل مكان إنما وُلِدت بعد حضانة طويلة في عالم المشاعر والأفكار للأفراد، وفي السفوح الخصبة للوجدان العام، واستقت من المناهل الداخلية بشكل مباشر، ومن الخارجية بعد الترشيح والتصفية، فترعرعت حتى صارت بعد زمان عمقا مهما لطبائع الشعوب ولونًا ظاهرًا لحياتها، ثم أحاطت بأرجاء الحياة كلها وإن لم تَجْرِ الألسنُ بالكلام عنها دائمًا، فهيمنت على حياتها في المعبد والمدرسة والشارع والبيت والمقاهي وغرف النوم، حتى إنَّ الناس وإن لم ينصاعوا لها بإرادتهم ووعيهم، فقد كانت تطوِّعهم بقوة سرية عفوية تأسر إرادتهم.
فأية أمة أرسيت قواعدُها بهذه المثابة على أساس ثقافي بهذه الرصانة فإنها بمرور الوقت ستصل إلى مستوى من النضج بحيث يكون من الطبيعي لها أن تتخطى كل العقبات التي تعترض طريقها كالجهل والفقر والتشرزم والتسيب والضغوط الخارجية.
تولد الثقافة بعد حضانة طويلة في عالم المشاعر والأفكار للأفراد، وفي السفوح الخصبة للوجدان العام.
إن حضارة روما وأثينا ومصر والعثمانيين تُعتبر من الأمثلة الجيدة على هذا. وبالنسبة للتاريخ القريب تُعتبر ألمانيا نموذجا لابأس به لولا أنها أنهكت نفسها بخوض مغامرات من نوع الحرب العالمية الثانية.
فبعد الحرب العالمية الثانية، انقلبت ألمانيا عاليها سافلها، وصار اقتصادها ركامًا، وتسلط الأجانب على سيادتها الوطنية، وتفرَّق المجتمعُ إلى معسكرات متنازعةٍ في الجو النفسي الذي ولَّدته الهزيمة والبؤس، وصارت تلك البلاد من أدناها إلى أقصاها معسكرًا للأسر. لكن قلوبهم كانت -في الوقت ذاته- تنبض بالهمة، ورؤاهم تفوح بحب ألمانيا الكبرى، وكانوا على ثقة تامة بأن قوتهم العضلية وفكرَهم كافيان لتحقيق ذلك. وكانوا على يقين بأن ألمانيا إذا كانت لا بد وأن تنجو من ميدان الموت هذا، فإنما تنجو بطاقتها الحيوية وثقافتها المستقرة الراسخة.
وهذا ما حصل فعلا. نعم، إن الشعب الألماني ولَّى وجهه شطر جذوره المعنوية، واستفاد بعقلانية من الظروف الاجتماعية، والنفسية-الاجتماعية، والاجتماعية- الثقافية، وأصبح من الذين قرؤوا وفسروا أوضاع النصف الأخير من القرن الماضي في سبيل مصالحهم، بشكل لم يسبق له مثيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص: ٢٤-٢٥، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١١، الطبعة الثانية، القاهرة
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.