إذا لم تقم قيامة العالم في غضون العقود الخمسة القادمة، فذلك يعني أن البشرية قد أُتيح لها مزيدًا من الوقت لمواصلة مسيرها في طريق التحول الكبير من دائرة الفكر المادي أساس حضارة اليوم والدخول في دائرة الفكر الروحي كما قد تنبأ بهذا التحول الأستاذ فتح الله كولن.
و”كولن” مفكر عملي وواقعي بإجماع معظم المتتبعين لأفكاره وكتاباته، وهو إذ يتنبأ بهذا التحول الفكري فإنما يفعل ذلك من منطلق مشاهداته واستقراءاته لمسارات الفكر العالمي، ومن تيقّنه من أن الفكر الروحي إذا غاب في دورة حضارية معينة فإنه لا بد من عودته في دورة تالية، ومما يعزز هذا الرأي لدى “كولن” رؤيته لأعمدة الفكر المادي وهي تشرع بالتصدع والتهاوي عمودًا بعد عمود ويومًا بعد يوم.
فقد شرع أساطين هذا الفكر بهدم مرتكزاته بأنفسهم، فقاموا يهدمون ما كانوا قد بنوه وبمعاول العلم نفسه الذي شيدوه به. فنسبية “آنشتاين” المدوية قلبت الأسس الفيزيائية والرياضية رأسًا على عقب، وحملت رجالات العلم على مراجعة يقينياتهم ومسلّماتهم.. وأما انشطار “الذرة” اللبنة الأولى في صرح المادية وتحولها إلى شعاع وضياء وكهارب، فقد غيرت الكثير من أفكارنا عن المادة والمادية.. وأما “الداروينية” و”الفرودية” و “الماركسية” فقد غدت اليوم من أوهام العقل البشري… وكذا قل عن نظرية “التفسير المادي للتاريخ” التي أبطلها للأبد فيلسوف التاريخ الشهير “توينبي” الذي توصل من خلال أبحاثه المضنية في تاريخ العالم وحضاراته إلى نظرية مفادها أن التاريخ البشري برمته ليس بأكثر من عملية نضالية لاستكشاف انعكاسات الألوهية من خلال أحداث التاريخ وحضارات الإنسان.
وليس من عادة كولن ولا من طبيعة تكوينه الفكري والاستشرافي أن ينأى بنفسه عما يحدث في العالم من تقلبات وتحولات في بنية الحضارة وفي تحولات عقلها من النقيض إلى النقيض، فيظلُّ يتطلع من برجه العالي إلى هذه الأحداث ولا ينزل إلى الميدان ليسهم بأفكاره وآرائه في دفع العمل التحولي والمفصلي في تاريخ البشرية إلى الأمام، ولَمَّا كانت أمة الإسلام هي الجزء الأهم من مجموع البشرية، والأكثر استجابة لهذه التحولات لما تملكه من رصيد روحاني عظيم، يمكن أن تفيد منه البشرية قاطبة في عملية التحول المنتظر، لذا كان خطابه موجهًا إليها بالذات ومن خلالها إلى البشرية جمعاء. ولكي يتمَّ التعرف على هذا الرصيد الروحي العظيم للأمة لا بد من أجواء تفاهمية وحوارية وكلامية بين مشارق الأرض ومغاربها، وهذا كله لا يتمّ ما لم يُظِلَّ السلام والأمان العالم الإنساني، وهذا هو دافع “كولن” ليصبح اليوم واحدًا من أميز رواد السلام والحوار وتبادل الأفكار بين شعوب الأرض وأممها.
وكما يصبح الحوار بين الإنسان والإنسان المغاير أمرًا مطلوبًا للتمهيد لعملية التحول الكبير، كذلك يصبح الحوار مع ذاكرة التاريخ الخزين الأكبر لأزمنة البشرية وعصورها وتقلباتها بين أحقاب مادية الصبغة وأحقاب روحية الصبغة أمرًا لازمًا كذلك. فهذه الذاكرة تحتفظ للأجيال الحاضرة ولكل الأجيال بأزمنة الوثبات الروحية العالية التي وجد فيها التاريخ المتنفس والمنطلق، ووجدت فيها البشرية ذاتها على حقيقتها وفطرتها الأولى التي فطرها الله تعالى عليها. فالجيل الحاضر سيجد في هذه الوثبات الروحية أمثلة حية ونابضة بالحياة لكي يستهدي بها وتكون وثباته على منوالها.
وفي التمهيد لعملية “التحول الكبير” ينبغي أن نحشد كُلَّ الأزمنة ذات الصبغة الروحية التي عرفها التاريخ، لتساعدنا وتقف إلى جانبنا، ونحشد معها كل الأمكنة ذات الطابع الروحي كذلك، وإذا كان للزمن روح متحرك وسجل حياة، فللأمكنة كذلك روحها وسجل حياتها -كما يرى كولن- ولها كلام وهمس يسمعه رهاف السمع “يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ” (سبأ: 10). وبعض الأمكنة لقدسية ما يناط بها من مهام روحية وتعبدية، يتدخل القدر من فوق سبع سماوات في الدعوة إلى إنشائها ورسم خارطتها، كـ”الكعبة الشريفة” مثلا، حتى أن بعض الأمكنة إذا شاهدناها يذهب بنا الروع إلى أنها نزلت هكذا من السماء، أو انشقت هكذا عنها الأرض كـ”المسجدالأقصى المبارك” وفي إسطنبول صرحان عظيمان متقابلان يتبادلان نوعًا من الهمس الروحي وهما “جامع السلطان أحمد” و “كنيسة جامع آيا صوفيا” اللذان يمثلان توحدًا روحيًّا في حضارتين مختلفتين، فيدفعان باتجاه حقبة حضارية جديدة روحية الأبعاد.
إن كولن يدعو طلبته والمتتلمذين على أفكاره إلى مزاحمة أولئك الرجال العظام العاملين من أجل قيام حضارة روحية جديدة على أنقاض هذه الحضارة القائمة اليوم، والعمل معهم يدًا بيد وكتفًا إلى كتف.. وعدّ ذلك من أوجب واجباتهم، ومن أعظم مهماتهم الرسالية إلى هذا العالم، كطلائع روحية تشكل حزامًا تتحزَّم بهم الكرة الأرضية، وتتحصّن بحصونهم من أي خروقات فكرية مناهضة للتحول الكبير نحو حضارة الروح القادمة.. وفي هذا الصدد يقول “كولن”: “إن السكون الدائم يعني إهمال التدخل فيما يحدث حولنا، وترك المشاركة في التكوينات المحيطة بنا، والاستسلام للذوبان الذاتي رغمًا عن أنفسنا كقطعة جليد سقطت في الماء”. ويمضي فيقول: “إن أهم مميزات الحركية الإسلامية والفكر الإسلامي هو: أن يكون وجودُنا ذاتَنا، وان نجعل مطالبنا مطالب العالم ورغباته. ومَن لا يرتبط باعتبار عالمه الخاص بعموم الوجود، ولا يحسُّ بعلاقاته مع الكائنات، وينكفئ في روابط مطالبه الفردية والجزئية عن مواجهة الحقائق الشاملة للعالم، فإنه يقطع أواصر ذاته عن الوجود كله، ويجردها، ويسقطها في حبوس الأنانية القاتل. إن روح افنسان يلتف ويتآلف مع العالم بالفكر وفي ظل الفكر.
وعن العمل الرسالي من أجل هذا التحول الكبير، وعن تباشير الآمال التي تحيط به، يقول كولن: “إن تحقيق هذه الرسالة الحيوية مرتبط قبل كل شيء بتحريك دبيب الأرواح الصدئة في هذه الأرضية الصدئة. ويبدو أن المجهود الدؤوب منذ خمسين أو ستين سنة قد نجح في زحزحة الصعاب. فيمكننا أن نئن مع الشاعر المُعذَّب، لإذ يقول: “اضْربْ بالمعول يا فرهاد، قد مضى الكثير وبقي القليل” .. التحرك الأول هو تحرك الروح، وهو يلقي السلام علينا اليوم أينما مضينا كأقواس الترحيب المقامة من أكاليل السماء النورانية، بنعومة السكينة ودفء غيمة الربيع. فلقد اقترب موعد احتضانه لوطن المظلومين والمغبونين والمقهورين كله، وصب وابل حنينه الرحيم زخًّا زخًّا”
لقد زرع كولن في طلبته حب النوع الإنساني، والاهتمام بعذاباته، والوقوف معه على عتبات الوثبات النوعية باتجاه بناء حضاري روحي العماد، وجعلهم يشعرون بمسؤوليتهم إزاء سقطات الإنسان وانحداره نحو المهاوي التي تملأ عينيه ظلامًا، ونفسه كآبة وعفونة، وأن ينثوا حنانًا عند كل مصروع، ويبكوا كل مفجوع، ويئنّوا مع الذين يئنّون، ويجففوا دموع الباكين، ويأخذوا بأيدي الساقطين، وأن يُعطوا ولا يأخذوا، ويبذلوا ولا يبخلوا، ويصبروا ولا يفزعوا، ويتحملوا ولا يضجروا، ويتحركوا ولا يسكنوا، وينشطوا ولا يكسلوا، ويعملوا ولا يتكلموا، ويحيوا ولا يموتوا..!
فإذا ما اندلعت شعلة هذه المعاني في أذهانهم، واسترّت في أرواحهم، توجهت إليهم الأنظار، وحوَّمت حولهم القلوب والأفكار، وغدوا منبع إلهام وعطاء، واختارتهم الأرض لإحياء مواتها، وتجديد حضارتها، وبناء فكرها، وشفاء روحها، وتنظيف مداركها، ونشر السلام والأمان في ربوعها. وهذه الصفات والأخلاقيات هي التي ينبغي أن يتعلمها المؤمن ويحياها ويتنفس بها فكرًا وسلوكًا، لأنها أخلاق علوية المصدر، ربانية الأصول، روحانية التنزيل.. فأصحاب هذه الصفات والسلوكيات قادرون على تغيير مسار الحضارات أو على الأقل حلّ مشاكلها، وتعديل مساراتها.. ومن دونهم تعمُّ الفوضى، ويختفي الحق، وتسقط العدالة ويأكل الناس بعضهم بعضًا..
**************
المصدر: أديب إبراهيم الدباغ، فتح الله كولن في شؤون وشجون، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2013، طـ1، صـ205/ 212.