نستعرض في هذه الدراسة النموذج التعليمي (التربوي) الذي قدمه فتح الله كولن في مجموعة خطب ألقاها حول الزواج وتعليم الوالدين للأبناء، مع مقارنته ببعض أهم نظريات التعلّم. نموذج كولن التعليمي مبني على الأحاديث النبوية الشريفة في أغلبه. لكن أهم ما يميز تأويل كولن هو نقاط التركيز والتفضيلات والتركيبات الفريدة التي تميزه عن التفسيرات القديمة للأحاديث النبوية، وبالتالي فإن هذا التأويل الجديد يستحق التقدير. في حين يركز نموذج كولن على تعليم الأبناء الأخلاق والقيم والسلوكيات، يمكن تطبيق اقتراحات كثيرة على تعليم المواد ذات الطابع الدنيوي.
تؤكد دراستنا أنه يمكن النظر إلى جوانب معينة في نموذج كولن بوصفها مبادئ تربوية تشابه تلك المستمدة من ثلاث نظريات تعلّم حديثة مبنية على علم النفس المعرفي؛ وهي نظرية التعلم الاجتماعي لباندورا، والنظرية المعرفية الاجتماعية لفيجوتسكي، ونظرية الترميز المزدوج لبافيو. كما تشير الدراسة إلى مبادئ وممارسات معينة تحتاج من مجتمع البحث التعليمي إلى مزيد من البحث والتقصي.
جاء في أحد التعريفات ذات الأصول السلوكية أن التعلّم عملية معرفية لاكتساب معرفة أو مهارات تؤدي إلى تغيرات في إمكانات السلوك يمكن ملاحظتها وقياسها على المدى الطويل (دائمة) (كيمبل 1961). ويرى أغلب واضعي النظريات أن التعلّم عملية تغيّر نسبي في السلوك (هيرجنهان 2000). وتُعرّف موسوعة ويكيبيديا على الإنترنت التعلّم بأنه:
عملية اكتساب المعرفة أو المهارات أو التوجهات أو القيم من خلال الدراسة أو الخبرة أو التعليم، وتؤدي إلى تغيّر السلوك تغيرًا دائمًا ومحددًا ويمكن قياسه، أو تتيح للفرد تكوين بناء ذهني جديد أو مراجعة بناء ذهني سابق (المعرفة التصورية مثل التوجهات أو القيم).
تتناول نظريات التعلّم طريقة حدوث عملية التعلم، ومن أهم فئات هذه النظريات التعلم السلوكي أو الوظائفي، والمعرفي أو ما وراء المعرفي، والبنائي، والفسيولوجي العصبي، والاجتماعي. ولا يعتبر هذا التصنيف تقسيمًا حصريًّا، وغالبًا ما تتداخل نظريات التعلّم فيما بينها. كما تواصل نظريات عديدة تطورها (ماكورميك 1996، شونك 1999، هيرجنهان 2000).
من بين أبرز نظريات التعلّم نظرية المعرفة الجينية لبياجيه، المعروفة باسم “نظرية التطور المعرفي” أو “البِنَى المعرفية الشكلية” (بياجيه)، و”النظرية البنائية” (برونر/ بياجيه)، و”نظرية الاشتراط الإجرائي أو السلوكي” (سكينر)، و”نظرية الثقافة الاجتماعية” (فيجوتسكي)، و”نظرية شروط التعلم” (جانييه)، والنظريات المعرفية/ ما وراء المعرفية أو التعلم المستند إلى الدماغ أو العلوم العصبية مثل “نظرية الترابطية” (ثورندايك)، والتفكير المعتمد على نصفي الدماغ، و”نظرية الترميز المزدوج” (بافيو)، وأنماط التعلم، و”نظرية الذكاءات المتعددة” (جاردنر)، ومجتمعات الممارسة أو “نظريات التعلم الاجتماعي أو الواقعي” (فيجوتسكي، باندورا، ليف)، و”نظرية استيعاب المعلومات” (ميلر) (ماكورمك 1996، شونك 1999، هيرجنهان 2000).
تركز نظريات التعلّم على طريقة حدوث عملية التعلم ونظريات التعليم وعلم التربية، وتستكشف من جانب آخر وسائل تيسير عملية التعلم. وغالبًا ما ترتبط نظرية التعلم بنموذج تعليمي أو أكثر مترتب على النقاشات الأساسية الخاصة بالنظرية. تبدأ هذه الدراسة بتحديد بعض المبادئ الرئيسية لنموذج كولن التعليمي (التربوي)، ومن ثم تقارنها بالمبادئ التعليمية المستمدة من ثلاث نظريات تعلم.
نموذج كولن التعليمي
قبل الشروع في مناقشة نموذج كولن التعليمي، من الضروري توضيح ما تشمله أو لا تشمله هذه الدراسة. نحن نشير تحديدًا إلى مجموعة النقاشات والمبادئ والممارسات التي ينادي بها كولن في خطاباته ومقالاته وكتبه التي تدور حول تعليم الصغار، على يد الوالدين بصورة أساسية والمعلمين بصورة جزئية (كولن 2002). يتمثل هدف هذا التعليم في غرس القيم والتوجهات والسلوكيات لدى الأطفال، وإعدادهم لمواجهة التحديات والفرص في الحياة. لا تضع هذه الدراسة في اعتبارها الممارسات التعليمية المطبقة في المدارس الخاصة المنتشرة حول العالم، التي أسسها رجال أعمال أو تربويون تأثروا بتركيز كولن على قيمة التعليم.
في هذا السياق، يحدد نموذج كولن التعليمي خمس مسؤوليات مهمة تقع على عاتق الوالدين عند تنشئة أطفالهم: تلبية الاحتياجات البدنية،وتعليم الانضباط والآداب الملائمة لكل مرحلة عمرية، والتهذيب الأخلاقي وتعليم الإيمان والعبادات، والعدل بين الأبناء، والحماية من الأذى والضرر الذي قد يسببه أصحاب النوايا السيئة (كولن 2002).
لا يقتصر كولن على مناقشة تنشئة الأطفال منذ لحظة ولادتهم، بل قبل الزواج. ويؤكد أن مؤسسة الزواج ما هي إلا إعداد لبيئة التعلم التي سينشأ فيها الطفل.
يجب أن يتصرف الوالدان بالصورة التي يريدان أن يكون عليها أطفالهما عندما يكبرون. إذا أراد الوالدان أن تكون آراء طفلهم قائمة على الثقة والحب والرحمة والكرم، فعليهما تجسيد هذه الخصال في حياتهما,
الزواج على أسس سليمة
يعتبر كولن أن هدف الزواج الأسمى هو تنشئة جيل منشود، وبالتالي فإنه يوصي باختيار شريك الحياة بعد التفكير الجيد في الأهداف التعليمية على المدى البعيد، ويؤكد أن الأم هي أول وأهم معلم وأن الأب هو ثاني أهم معلم في حياة الطفل. لهذا ينصح الأشخاص المقبلين على الزواج بالتفكير في الجانب التعليمي وسمات شريك الحياة باعتبارهما عاملين مهمين عند اتخاذ قرار الزواج.
تثقيف الوالدين بشأن تنشئة الأطفال
مثلما يُطلب من البالغين اجتياز دورة تدريبية للحصول على رخصة القيادة، يقترح كولن اجتياز دورة في تعليم الأطفال قبل الزواج. بما أن تربية الأطفال لا تقل أهمية عن سلامة الأشخاص في الطرق، يجب ألا تُترك مهمة جليلة كتعليم الأبناء في أيدي الأزواج الشباب عديمي الخبرة.
الوالدان مثالاً يُحتذى بهما
يرى كولن أنه سواء شاء الوالدان أم أبيا، فإنهما المثل الأعلى لأبنائهما. لهذا فإن أفعالهما وكلامهما وطريقة تعاملهما معًا وعلاقاتهما مع الآخرين تضرب المثل لأطفالهما. يجب أن يحاول الوالدان باستمرار أن تظل صورتهما في أعين أطفالهما جليلة، بحيث يكون لتعليماتهما واقتراحاتهما وزن عند الأطفال.
يجب أن يتصرف الوالدان بالصورة التي يريدان أن يكون عليها أطفالهما عندما يكبرون. إذا أراد الوالدان أن تكون آراء طفلهم قائمة على الثقة والحب والرحمة والكرم، فعليهما تجسيد هذه الخصال في حياتهما. لأنهما إن لم يفعلا، فعلى الأرجح سينشأ شخص يفتقر إلى الثقة، محروم من الحب والرحمة والكرم.
الأم أول وأهم معلم
يشدد كولن على دور الأم باعتبارها أول وأهم معلم في حياة الطفل. ويكرر آراء النورسي الذي يرى أن ما يتعلمه الطفل من والدته يشكّل السمات الرئيسية لشخصيته، التي تنبني عليها كل جهود التعليم اللاحقة على مر حياته.
تخصيص الوقت لتعليم الطفل
بعد وضع كل النقاط سالفة الذكر في الاعتبار، يقترح كولن أن ينظر الوالدان إلى تعليم الطفل بوصفه مهمة جليلة وهدفًا ساميًا من أهداف حياتهما. وكما يخصصان الوقت لأداء أنشطة أخرى بصفة منتظمة، يجب عليهما تخصيص أوقات محددة لتعليم أطفالهما.
الاهتمام بإعداد وتهيئة البيئة المناسبة
يرى كولن أنه يجب على الوالدين التفكير في كل جوانب حياة الطفل، والتخطيط بدقة لإعداد البيئة المناسبة لتنشئة الطفل وتهيئتها جيدًا. ونظرًا لأن الطفل يظل يتعلم خارج حدود المنزل والمدرسة، يجب على الوالدين الانتباه أين يقضي طفلهما الوقت، والتأكد أن المصادر الأخرى التي يحصل منها على المعلومات متوافقة مع فلسفتهما التعليمية. ويسوق كولن مصفف الشعر كمثال على مصادر المعلومات الأخرى. لا بد أن يعرف الوالدان فلسفة مصفف الشعر وأسلوب حياته قبل اصطحاب طفلهما إليه.
غرس الفضائل بضرب أمثلة حقيقية
بدلاً من الحديث عن الفضائل وكيف أنها أعمال مستحبة عند الله وفي أعين البشر، يقترح كولن شرح هذه القيم وغرسها في عقل الطفل من خلال سرد مآثر الأولياء والصالحين السابقين. ويذكر كيف غرس والداه فضائل مثل الصدق والكرم والإخلاص والرحمة في نفسه من خلال إخباره بقصص صحابة النبي .
التركيز على الإخلاص
يوصي كولن الوالدين، وأي شخص يلعب دورًا يؤهله أن يكون قدوة للطفل أن يتصرف بإخلاص وبنية صادقة. يجب ألا يكون هناك تعارض بين نوايا وأفكار الشخص وسلوكه. لهذا يشير كولن إلى أن مراقبة الطفل لتصرفات والديه أقوى تأثيرًا من أي كلمات تُقال. على سبيل المثال، عندما يرى الطفل والديه يبكيان حزنًا على معاناة البشر، سيشب مشغولاً بهذه القضية مقارنة بطفل لم يسمع سوى كلمات والديه. يضرب كولن مثالاً لأحد أئمة المدارس الفقهية الكبرى، أحضر والدان طفلهما إلى الإمام ليحدثه عن مضار الإكثار من تناول العسل. فطلب منهما الإمام العودة إلى المنزل وإحضار الطفل بعد 40 يومًا. اندهش الوالدان لكنهما نفذا الأمر وعادا بطفلهما بعد مرور 40 يومًا. هذه المرة، شرح الإمام للطفل بوضوح مضار الإكثار من تناول العسل ووبخه. بعدها أخبر الوالدان الإمام بسعادة أن الطفل أقلع عن عادته. وعندما سُئل الإمام عن الأربعين يومًا قال: «اليوم الذي أحضرتما فيه ابنكما كنت قد تناولت العسل، ومع وجود العسل في جسمي لم تكن كلماتي ستحمل أي معنى أو تأثيرًا حقيقيًّا. أردت أن أنتظر حتى يزول أي أثر للعسل من جسمي لتكون كلماتي صادقة».
يعتبر كولن أن هدف الزواج الأسمى هو تنشئة جيل منشود. وبالتالي فإنه يوصي باختيار شريك الحياة بعد التفكير الجيد في الأهداف التعليمية على الأمد البعيد.
الصدق والأمانة
أثناء تعلم الطفل دروسه الأساسية من والديه، من المهم أن يحافظ الوالدان على مصداقيتهما أمام طفلهما، وذلك من خلال التمسك بالصدق والأمانة، وهذا أمر ضروري لغرس الثقة في نفس الطفل. يجب على الوالدين أخذ طفلهما على محمل الجد والتعامل معه كشخص بالغ إلى الحد المقبول، مع مراعاة حدوده في الوفاء بواجباته والقيام بمسؤولياته. ينبه كولن أن الطفل قد لا يقوم بأي رد فعل فوري عند اكتشاف عدم صدق والديه، لكنه سيظل يتذكر الموقف، وقد يظهر رد فعله في وقت لاحق في موقف مشحون بالمشاعر.
مراعاة عمر الطفل
ينصح كولن بأن تكون المواد المقدمة للطفل والطريقة التي تُقدم بها مناسبين لعمره. فبعض المواد يجب ألا يتم تدريسها إلا بعمر معين، وبعض المواد من الأفضل تعليمها للطفل بالتدريج بحيث تزداد تعقيدًا كلما تقدم في العمر.
تناسب الثواب والعقاب
ينصح كولن بأن يكون التعزيز الإيجابي أو السلبي متناسبًا مع الحدث. لا بد أن ينظر الوالدان إلى علاقة الحب والثقة التي تربطهما بطفلهما بوصفها ميزة كبيرة، وأن يساعدا طفلهما على إدراك ذلك. وبالتالي فإن الأخطاء الفادحة مثل انتهاك الثقة تستتبع استجابة على قدر الخطأ، في حين أن الأخطاء البسيطة قد لا تستوجب استجابات فورية وحادة. يساعد اتباع هذه الإستراتيجية على المدى الطويل في ترتيب الأولويات بصورة صحيحة في عقل الطفل.
نظريات التعلم ونموذج كولن التعليمي
سوف نتناول النموذج التعليمي الذي اقترحه كولن وعلاقته بالمبادئ التربوية المستمدة من ثلاث نظريات تعلّم، هي نظرية التعلم الاجتماعي لباندورا، والنظرية المعرفية الاجتماعية لفيجوتسكي، ونظرية الترميز المزدوج لبافيو.
1- نظرية التعلم الاجتماعي لباندورا ونموذج كولن التعليمي
تركز نظرية التعلم الاجتماعي أو التعلم بالملاحظة على تغير سلوك الشخص عبر ملاحظة سلوك نموذج معين. «قد يتأثر سلوك الشخص بالنتائج الإيجابية أو السلبية -وهو ما يعرف بالتعزيز أو العقاب البديل- لسلوك نموذج معين» (باندورا 1963، باندورا 1971، باندورا 1986، كلارك 1991، باندورا 1993). ترى هذه النظرية أن هناك عدة عوامل تؤثر على عملية تعلّم السلوك الملاحظ وطريقة تعلمه وتطبيقه كسلوك. ينطوي التعلم بالملاحظة على أربع مراحل؛ هي الانتباه، والحفظ، والتقليد، والدافعية.
يعد الانتباه عنصرًا جوهريًّا في التعلم. ويتأثر الانتباه بعوامل مثل ما يفضله أو لا يفضله المتعلم في النموذج، وتوقعات المتعلم، ومستوى الاستعداد الانفعالي، كما يعتبر الحفظ ضروريًّا ليحدث التعلم المستمر. ومما يسهّل عملية الحفظ ويزيدها، قدرة المتعلم على تحويل المعلومات إلى نموذج عقلي أو شكل يسهل استرجاعه. يشير التقليد إلى قدرة المتعلم العقلية أو البدنية على تقليد السلوك المرغوب. وقد تتطلب عملية التقليد أحيانًا استخدام مهارات لم يكتسبها المتعلم بعد.
يقترح كولن اجتياز دورة في تعليم الأطفال قبل الزواج. بما أن تربية الأطفال لا تقل أهمية عن ســلامة الأشخاص في الطرق، يجب ألا تُترك مهمة جليلة كتعليم الأبناء في أيدي الأزواج الشباب عديمي الخبرة.
وأخيرًا، لا يقوم الشخص بالسلوك المرغوب إلا إذا كان لديه قدر من الدافعية أو حافز للقيام به. وهناك عوامل كثيرة تؤثر على الدافعية، من أهمها التعزيز أو العقاب، سواء للنموذج أو للمتعلم مباشرة. ومن أهم عناصر الدافعية في نظرية باندورا الفعالية الذاتية؛ والتي تُعرف بأنها «إيمان الفرد بقدرته على السيطرة على أفكاره ومشاعره وأفعاله، وبالتالي التأثير على النتيجة» (باندورا 1994). يرتبط تصور المتعلم لفعاليته الذاتية بأدائه الفعلي (لوك 1984، شونك 1981) بما في ذلك أداؤه الأكاديمي (مولتن 1991)، وإنجازه (أمس 1984، نيكولز 1984)،وانفعالاته (باندورا 1977)، وجهوده ومثابرته (براون 1978).
يشير باندورا إلى أربع مصادر أساسية يحصل المتعلم على المعلومات منها لتقييم فعاليته الذاتية: (1) التجارب الفعلية، (2) التجارب البديلة أو الملاحظة، (3) الإقناع اللفظي، (4) المؤشرات الفسيولوجية. في حين تعتبر تجارب الشخص الفعلية أكثر مصدر موثوق للتقييم، فإنها أيضًا أكثر مصدر يستهلك الوقت ولا يمكن الاعتماد عليه دائمًا. تساعد ملاحظة الأقران أو البالغين وهم يؤدون المهام المماثلة في تعزيز الفعالية الذاتية، غير أن هذا التأثير لا يحدث تلقائيًّا. تخضع المعلومات المكتسبة من الأقران والبالغين للمعالجة المعرفية قبل إطلاق حكم بشأن الفعالية الذاتية. ومن العوامل المهمة التي تؤثر في التعلم بالملاحظة مصداقية مصدر الإقناع (شونك 1998). فكلما زادت مصداقية النموذج زاد تأثير أفعاله على المتعلم. تتماشى الملاحظات الخاصة بالفعالية الذاتية والمصداقية مع تأكيد كولن على دور القدوة وأهمية مصداقيتها.
يؤكد كولن عند تعليم القيم والتوجهات على استخدام طريقة سرد قصص الأتقياء والصالحين بدلاً من الإقناع اللفظي (كولن 2002). عادة ما ينعم الأتقياء في نهاية هذه القصص إما براحة البال أو قبول المجتمع أو الثواب من الله. في نظرية التعلم الاجتماعي لباندورا، يتأثر اعتناق السلوك أو الرأي بنتائج أفعال النموذج. إذا كانت نتائج أفعال النموذج إيجابية بالنسبة له، فسوف تزيد احتمالات أن يقلد المتعلم سلوك النموذج. واستخدام طريقة سرد القصص الحقيقية وسيلة جيدة لإثارة الصور الذهنية بمحفزات لفظية سنناقشها لاحقًا.
2- النظرية المعرفية الاجتماعية لفيجوتسكي ونموذج كولن التعليمي
يعد فيجوتسكي واحدًا من أهم العلماء الذين قدموا إسهامات جليلة لعلم التعلّم بفضل النظرية المعرفية الاجتماعية (فيجوتسكي 1962، فيجوتسكي 1978). تولي نظريته أهمية بالغة للثقافة التي ينشأ فيها الطفل. لا شك أن كل طفل ينشأ في إطار ثقافة معينة، وهذه الثقافة هي العامل الرئيسي المحدِّد لسمات نشأة الفرد وفقًا للنظرية المعرفية الاجتماعية. يتأثر تطور تعلم الطفل بالثقافة، بما في ذلك ثقافة البيئة المنزلية، من جانبين: أولهما نوعية أفكار الطفل، وثانيهما طريقة أو وسيلة تفكيره، وتسمى أدوات النمو الفكري.
كل وظيفة عقلية في نمو الطفل الثقافي لها مستويان: المستوى الاجتماعي أولاً، ثم يأتي المستوى الفردي لاحقًا، أولاً بين الأفراد، وثانيًا داخل الفرد. ويتضمن ذلك وظائف الانتباه الإرادي، ثم الذاكرة المنطقية، وتكوين المفاهيم. وتنشأ كل الوظائف المعرفية العليا عن العلاقات التفاعلية بين الناس (فيجوتسكي 1978، ص 57).
يقترح كولن أن ينظر الوالدان إلى تعليم الطفل بوصفه مهمة جليلة وهدفًا ساميًا من أهداف حياتهما، وكما يخصصان الوقت لأداء أنشطة أخرى بصفة منتظمة، يجب عليهما تخصيص أوقات محددة لتعليم أطفالهما.
إن تأكيد فيجوتسكي على دور الثقافة، بما في ذلك البيئة المنزلية، يشبه تأكيد كولن على مسؤولية الوالدين في مراقبة تجارب الطفل داخل بيئتهما. يرى كولن أن الطفل يتعلم في كل سياقات الثقافات. وحتى تكون الرسائل التي ترد إلى الطفل متسقة كلها، يجب على الوالدين مراقبة بيئة الطفل من كل جوانبها، ليس في المنزل والمدرسة فحسب. تؤكد النظرية المعرفية الاجتماعية أن التفاعلات مع الثقافة المحيطة والعوامل الاجتماعية، مثل الوالدين والأقران الكفؤ، يسهم إسهامًا كبيرًا في النمو الفكري للطفل.
تؤكد النظرية المعرفية الاجتماعية أن التفاعلات مع الثقافة المحيطة والعوامل الاجتماعية، مثل الوالدين والأقران الأكفاء، يسهم إسهامًا كبيرًا في النمو الفكري للطفل.
من بين العوامل المهمة في نظرية فيجوتسكي فكرة «منطقة التطوير القريبة». يشير هذا المصطلح إلى مستوى التطور المحتمل الذي يستطيع المتعلم إحرازه بمساعدة قرين أو مرشد، مقارنة بمستوى التطور الفعلي للمتعلم في وقت معين. يستطيع الطفل التعلم بكفاءة وفعالية أكبر بكثير عندما يتم تصميم نشاط التعلم فوق مستوى تطوره الحالي. يستطيع البالغ المشرف على تعليم الطفل الارتقاء بمستوى تعليمه من خلال التعديل المستمر لمستوى صعوبة عملية التعلم. نلاحظ أن مفهومي منطقة التطوير القريبة والتعديل المستمر يماثلان مبدأ كولن القائل بأن التعليم يجب أن يتناسب مع مستوى التطور. يوضح كولن أن مسؤولية الوالدين والمعلمين هي تقييم مستوى التطور وعدم إغفال العلامات الدالة عليه.
3- نظرية الترميز المزدوج لبافيو ونموذج كولن التعليمي
ينادي كولن باستخدام قصص الصالحين الذين عاشوا في الماضي، لغرس القيم في نفوس الأطفال، مقارنة بالاقتصار على الحديث عن هذه القيم. فاستخدام القصص الواقعية يثير مخيلة الطفل وذاكرته البصرية.
تنص نظرية الترميز المزدوج لبافيو على أن الإدراك البشري يقوم على آليات وعمليات معالجة متخصصة للتعامل مع اللغة والأشياء غير اللفظية مثل الصور (كلارك 1991، بافيو 1971، بافيو 1986).
«الإدراك البشري فريد من نوعه، حيث أصبح متخصصًا في التعامل مع اللغة والأشياء والأحداث غير اللفظية في نفس الوقت. علاوة على ذلك، فإن نظام اللغة غريب، لأنه يتعامل مع المدخلات والمخرجات اللغوية (في شكل خطاب أو كتابة) مباشرة، ويؤدي في الوقت نفسه وظيفة رمزية فيما يتعلق بالأشياء والأحداث والسلوكيات غير اللفظية. يجب أن تستوعب أي نظرية تمثيلية هذه الوظيفة المزدوجة.» (بافيو 1986، ص 53)
اليــوم الــذي أحضرتما فيــه ابنكما، كنت قد تناولت العســل. ومع وجود العســل في جســمي لم تكن كلماتي ستحمل أي معنى أو تأثيرًا حقيقيًّا. أردت أن أنتظر حتى يزول أي أثر للعسل من جسمي لتكون كلماتي صادقة.
تُطبق نظرية الترميز المزدوج على المواقف التعليمية كحل المشكلات، وتعلم المفاهيم، وتعلم اللغة. تفترض هذه النظرية وجود نظامين للإدراك؛ أحدهما متخصص في تمثيل ومعالجة المعلومات اللغوية (اللفظية) والآخر متخصص في معالجة المعلومات غير اللفظية مثل الصور. وتحدد النظرية ثلاثة أنواع من المعالجة المعرفية: (1) المعالجة التمثيلية، حيث تنشط الأوصاف غير اللفظية مباشرة، (2) المعالجة المرجعية، حيث ينشط النظام اللفظي بواسطة النظام غير اللفظي والعكس، (3) المعالجة الترابطية، حيث ينشط النظام اللفظي أو غير اللفظي بنفسه. وقد تحتاج أي مهمة لنوع واحد أو أكثر من هذه الأنواع.
إن المبدأ التربوي الذي تعتمد عليه نظرية الترميز المزدوج هو تمثيل المعلومات بشكلين لفظي وغير لفظي مثل الصور الفعلية أو الذهنية. ويمكن النظر إلى اقتراح كولن بغرس الفضائل عبر قصص الصالحين بوصفه شكلاً من أشكال إثارة التخيلات بواسطة محفز سمعي. تساعد هذه التخيلات المتعلم على بناء صور ذهنية وترميز المفاهيم في عقله الباطن بمساعدة الذاكرة اللفظية وغير اللفظية. وقد يساعد هذا النوع من التخيلات الطفل على التعلم بوسائل أخرى إلى جانب استخدام الذاكرة المرئية، مثل زيادة تصديق النموذج والتعلق به (برودي 1987، كاوفمان 1996).
تحليل مصادر المعلومات
ورد في سيرة أونال (أونال 2000، أونال 2001) أن كولن لم يتلق تعليمًا رسميًّا قط لنظريات التعلّم. كما لا يوجد دليل يؤيد أنه تعلم هذه النظريات بنفسه. كثيرًا ما يشير في خطبه إلى فلاسفة وعلماء غربيين على غرار كانت وباسكال وكومت وجيمس جين وغيرهم، لكنه لم يتحدث مرة واحدة عن أصحاب نظريات التعلم. لكننا نعرف أن كولن يتمتع بمعرفة شاملة بالأحاديث النبوية. ولا شيء أدل على ذلك من قيامه بتخصيص فصل كامل في كتابه عن حياة النبي محمد حول الجوانب التعليمية في حياته (كولن 1996). وبالتالي فإن نموذج كولن التعليمي ليس ثمرة التعرف على نظريات التعلم الحديثة. بل إنه تفسيره الخاص -التقليدي جزئيًّا والمبتكر جزئيًّا- ورؤيته للأحاديث النبوية. ومن هذا المنطلق، يسعدنا الإشارة إلى أن الكثير من المبادئ والممارسات الخاصة بنموذج كولن التعليمي تدعمها نظريات تعلم حديثة والنماذج التربوية المرتبطة بها.
الخاتمة
تناولنا في هذه الدراسة بعض أهم سمات نموذج كولن التعليمي، الذي يعتمد في جزء منه على تعليم الوالدين وفي جزء على التعليم المدرسي لغرس القيم والاتجاهات والسلوكيات في نفوس الأطفال. وأشرنا كيف أن بعض الجوانب المهمة في هذا النموذج تشابه النماذج التربوية المستمدة من نظريات التعلم الحديثة؛ ولا سيما نظرية التعلم الاجتماعي لباندورا، والنظرية المعرفية الاجتماعية لفيجوتسكي، ونظرية الترميز المزدوج لبافيو. يعتبر هذا التشابه أمرًا مثيرًا للاهتمام عندما نعرف أن كولن لم يدرس نظريات التعلم الحديثة أو يعلمها لنفسه. وما زال البحث مطلوبًا بغرض تقصي الجوانب الأخرى لهذا النموذج التعليمي، وتحديد ما إذا كان سيحقق نتائج إيجابية عند تعليم القيم والأخلاقيات والسلوكيات في مجتمع متنوع دينيًّا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
– (أمس 1984) سي أمس (1984)، «هياكل الأهداف التنافسية والتعاونية والفردية: تحليل معرفي تحفيزي»، في آر إيه أمس وسي أمس (محرران)، بحث حول التحفيز في التعليم: تحفيز الطلاب (المجلد 1، ص 177-207)، نيويورك، المطبعة الأكاديمية.
– (باندورا 1963) ألبرت باندورا وآر والترز (1963)، «التعلم الاجتماعي ونمو الشخصية»، نيويورك: دار نشر «هولت وراينهارت ووينستون».
– (باندورا 1971) ألبرت باندورا (1971)، «نظرية التعلم الاجتماعي»، نيويورك: مطبعة «جنرال ليرنينج».
– (باندورا 1986) ألبرت باندورا (1986)، «الأسس الاجتماعية للفكر والفعل»، إنجلوود كليفس، نيوجيرسي، دار نشر «برينتس هول».
– (باندورا 1993) ألبرت باندورا (1993)، «الفعالية الذاتية المدركة في النمو المعرفي والأداء»، جريدة Educational Psychologist، العدد 28 (2)،.ص 117-148.
– (باندورا 1994) ألبرت باندورا (1994)، «الفعالية الذاتية»، في في إس راماشودران (محرر)، موسوعة السلوك البشري (المجلد 4،.ص 71-81)، نيويورك، دار النشر الأكاديمية. (أعيدت الطباعة في إتش فريدمان (محرر)، موسوعة الصحة النفسية، سان دييجو، دار النشر الأكاديمية، 1998).
– (برودي 1987) هاري صامويل برودي، «دور المخيلة في التعلم»، لوس أنجلوس: مركز جيتي للتعليم في مجال الفنون، 1987.
– (براون 1978) آي براون جونيور ودانيل كين إنوي (1978)، «العجز المتعلم عبر النماذج: دور التشابه المدرك في الكفاءات»، جريدة Journal of Personality and Social Psychology، العدد 36، ص 900-908.
– (كلارك 1991) جيه إم كلارك وألان بافيو (1991)، «نظرية الترميز المزدوج والتعلم»، جريدة Educational Psychology Review، العدد 3 (3)،.ص 149-170.
– (كولن 1996) فتح الله كولن (1996)، «النبي محمد: جوانب من حياته»، مؤسسة The Light Inc.
– (كولن 2002) فتح الله كولن (2002)، «من البذرة إلى الشجرة: منظور آخر للتعليم الأسري، باللغة التركية»، شركة Nil A.S.، إزمير، تركيا، 2002.
– (هيرجنهان 2000) بولدوين روس هيرجنهان وآخرون (2000)، «مقدمة إلى نظريات التعلم»، دار نشر «برينتس هول».
– (كاوفمان 1996) جي كاوفمان (1996)، «الوجوه العديدة للصور الذهنية»، أكسفورد: مطبعة جامعة أكسفورد.
– (كميبل 1961) جيه إيه كيمبل (1961)، «الشرطية والتعلم عند هيلجارد وماركيز»، مؤسسة Appleton-Century-Crofts, Inc.، نيويورك.
– (لوك 1984) إدوين إيه لوك وجاري بي لاثام (1984)، «وضع الأهداف: تقنية تحفيزية ناجحة»، إنجلوود كليفس، نيوجيرسي: دار نشر «برينتس هول».
– (ماكورميك 1996) كريستين بي ماكورميك وآخرون (1996)، «علم النفس التعليمي: التعلم والتدريس والتقييم»، دار نشر «أديسون ويزلي».
– (مولتن 1991) كارين دي مولتن، وإس دي براون، وروبرت دابليو لينت (1991)، «علاقة معتقدات الفعالية الذاتية بالمخرجات الأكاديمية: بحث ما وراء تحليلي»، جريدة Counseling Psychology، العدد 38، صص 30-38.
– (نيكولز) جون جراهام نيكولز (1984)، «الدافعية للإنجاز: مفاهيم القدرة والخبرة الذاتية واختيار المهمة والأداء»، جريدة Psychology Review، العدد 91، ص 328-346.
– (بافيو 1971) ألان بافيو (1971)، «عمليات معالجة الصور والمعلومات اللفظية»، نيويورك، دار نشر «هولت وراينهارت ووينستون».
– (بافيو 1986) ألان بافيو (1986)، «التمثيلات العقلية»، نيويورك: مطبقة جامعة أكسفورد.
– (شونك 1989) ديل إتش شونك (1989)، «الفعالية الذاتية والإنجاز المعرفي: النتائج بالنسبة للطلاب ذوي مشكلات التعلم»، جريدة Learning Disabilities، العدد 22، ص 14-22.
– (شونك 1981) ديل إتش شونك (1981)، «تأثيرات النمذجة والإسناد على إنجاز الأطفال: تحليل الفعالية الذاتية»، جريدة Learning Disabilities، العدد 73، .ص 93-105.
– (شونك 1999) ديل إتش شونك (1999)، «نظريات التعلم: من منظور تعليمي»، دار نشر «برينتس هول».
– (أونال 2000) إيه أونال، «فتح الله كولن: مقال عن لوحة شخصية»، إسطنبول: شركة النيل، 2000.
– (أونال 2001) أونال وعلي وألفونس ويليامز، 2001، «داعم الحوار: فتح الله كولن»، فرجينيا: دار نشر «ذي فاونتن».
– (فيجوتسكي 1962) ليف إس فيجوتسكي (1962)، «التفكير واللغة»، كامبريدج، ماساشوستس: مطبعة MIT، (نشر العمل الأصلي عام 1934).
– (فيجوتسكي 1978) ليف إس فيجوتسكي (1978)، «العقل في المجتمع: تطور العمليات النفسية العليا»، كامبريدج، ماساشوستس: مطبعة جامعة هارفارد.