إننا حين نناقش الإسلام في تركيا ومفهومه لدى شخصيّات مثل فتح الله كُولَنْ تظهر أمامنا بضع عقباتٍ يتحتّم اجتيازها بشكلٍ أكيدٍ، أول هذه العقبات أن طبقةَ المثقّفين -التي تقود ذهنيًّا وفكريًّا قطاعًا يُعرّفُ نفسه بأنه علمانيّ وغربيّ- لم تُكلّف نفسها حتى الآن ولم تَسْعَ بنسبةٍ كبيرةٍ إلى فهم جوهر الإسلام في إطار منطقِهِ الخاصّ، وأنها تنظر إلى ظاهرة الدِّين وإلى الإسلام نظرةً خارجيّةً تمامًا، ولا سيّما أن إرجاع كل شيءٍ إلى العلمية في البلاد غير الغربيّة أكثر من البلاد الغربيّة ذاتها وكأنها المصدر الوحيد في يومنا الحاضر، والنظرَ إلى كل شيء من وجهة نظر عقليةٍ مظنونٌ أنها خاصة بالغرب يقف أمامنا كأحد الأسباب الرئيسة للانفصال والانفصام القائم بين الدولة والمواطن، والتباين بين المثقف والشعب والذي يصل إلى اضطرابات عميقة في البلاد الإسلامية بصفة خاصة، وكذلك الخلاف بين بعض طبقات المجتمع.
وما زالت ظاهرة الدِّين -ذات الفهم الغربي في القرن التاسع عشر- تواصلُ تأثيرها في تركيا ضمن ثلاثة أنماطٍ ومناهج: اجتماعيّ ونفسيّ وإنثروبولوجيّ، ويمكننا أن نرتّب على النحو الآتي النقاط المشتركة بين تلك الأنماط الثلاثة التي يتعذّر علينا تحليلها تفصيليًّا هنا:
الدِّين ليس نظامًا ولا مؤسّسةً وضعتها قدرةٌ فوق البشر، وليس واضعها صاحب قدرةٍ وإرادةٍ وعلمٍ مطلقٍ، إنها نتاج العقل الإنسانيّ ذاته.
يحتاج الإنسان في مرحلة تكوّن شخصيته وفي العصر الذي عجزت فيه مسيرة الحياة على وجه البسيطة عن إخضاع الطبيعة لها أو تلك التي لم تكن الحياة الاجتماعيّة قويّةً جدًّا فيها إلى الإيمان بقوّةٍ خارقةٍ تفوقه، فيُنظّم هذه الحاجة في صورة الإله وبعض الطقوس.
إن الدِّين الذي بدأ يفقد معناه ووظيفته سوف يخرجُ عند نقطة معيّنةٍ من حياة الإنسان عن كونه حاجةً إنسانيّةً ملحّة؛ وذلك نتيجة استطاعة العلوم الطبيعيّة والتقنيّة إخضاع الطبيعةِ للإنسان وجعلِها إيّاه الحاكم عليها، ونتيجة القدرةِ أيضًا على تحليل الحوادث الطبيعيّة تحليلًا علميًّا صرفًا…
قد يستمرّ بعض الناس في الإيمان بدينٍ ما، وبأيِّ شكلٍ من الأشكال، ورغم كلّ شيءٍ، وذلك لأجل إشباع مجموعةٍ من الرغبات الإنسانيّة، وإضفاء الأخلاق على سلوكياتهم وتصرفاتهم على حدٍّ سواء.
تسبّب الفهم الدينيّ الغربيّ -الخاصّ بالقرن التاسع عشر الذي تحدثنا عنه آنفًا- بحدوث أخطاء جسيمةٍ في الدول المُدْرَجة ضمن دول “العالم الثالث” كتركيا، وبحسب تصنيفٍ آخر ضمن فئة الدول الإسلاميّة؛ فإن أحدَ هذه الأخطاء الشائعة تبَادُرُ المسيحيّةِ إلى الذهن حين يُذكرُ “الدِّين”، ولا سيما دمجُ المسيحية بالإسلام لدى قطاع المثقفين، فأكبر خطإٍ يولِّدُه دمج هذين الدِّينَين اللذَيْن تفصل بينهما فروقٌ مهمّة بدءًا من العقيدة إلى العبادات، ومنها إلى أدوارهما في الحياة، ومنها إلى قواعد التصرّف والسلوك؛ يظهرُ في وجهات النظر السياسيّة السلبيّة حول الإسلام وكأبرز حقيقة على ذلك -على سبيل المثال- أنه لم توجد في الإسلام في أي وقت قطّ مؤسسةٌ تشبه الكنيسة التي تبدو ممثل مقام الألوهية في الأرض، وتسمح نتيجة لذلك بوجود نوع من “الثيوقراطيّة” ، كما لم تظهر في الإسلام ثيوقراطية ولا طبقةٌ من رجال الدِّين في تسلسل هرميّ باستثناء ما هو موجودٌ في التشيّع الإيرانيّ.
أما الخطأ الثاني -الذي تسبّب فيه استيراد مفهوم الدِّين من الغرب- فهو اعتبار الإسلام نظامَ حياةٍ وعبادةٍ وعقيدةٍ ” السكولائية” يحتاج للتجديد والإصلاح أو نظامًا نتج عن ذهن الإنسان في فترةٍ من فترات التاريخ، أو اعتباره مجموعة من النصوص التي يجب قبولها دون إعمال العقل، ودون التفكير مطلقًا.
وهكذا تُشَكّلُ هذه الأخطاء سببًا مهمًّا في الخلافات القائمة بين القطاع الإسلاميّ ومن يُعرّفون أنفسهم بالعلمانيّين.
إن تبادل العديد من المثقّفين في العالم الإسلامي -وبالطبع في تركيا- الفهمَ الدينيّ الصادر عن الفلسفة الوضعيّة ومنهج “فرويد (Freud)” في التحليل النفسيّ تبادلًا بقدر كبيرٍ تحت مسمّى العلم أدَّى إلى عدم فهم قوّة مصدر الدِّين وتأثيره على الناس، والذي أحدثه من ذاته، هذا الفهم يعجز عن إدراك مصدر قوّة الرسل الذين تربّعوا على قلوب مئات الملايين من الناس منذ عصور، وتفرّدوا مثل عيسى وموسى (على نبينا وعليهما السلام)، كذلك يستحيل عليه أن يفهم كيف استطاع هذا النبي الأمّيّ الذي ظهر في مكّة بمفرده، والذي يمثل مصدر هذا الدِّين المتّفق مع فطرة البشر، أن يقيم عرشه في القلوب والعقول بقوّة الله والقرآن الذي أنزله تعالى، وكيف أنه دعى الناسَ إلى الله دون أن يرجو أيّ مصلحةٍ دنيويّةٍ على الإطلاق، وغيّر وجه العالم من كلّ ناحية، وفي فترة قصيرةٍ جدًّا أصبحتَ ترى أولئك الناس -الذين بَدَوا وكأنه يستحيل تغييرهم- وقد زيّنهم بأحسن القيم الأخلاقيّة، ورفعهم إلى مستوى أخلاقيٍّ وعلميٍّ بحيث صاروا أناسًا مثاليّين يُطلَقُ عليهم اسم “الصحابة” الكرام إلى يوم القيامة، كما أن ذلك المنهج في الفهم أيضًا لا نستطيع أن نستنبط أو نفهم منه أن الدِّينَ المزعومَ سيخرج من كونه حاجةً إنسانيّةً مع مرور الزمان، فلقد استطاع أن يهيمن على قلوب الكثيرين من الناس وعلى عقولهم وحياتهم تدريجيًّا على مرّ الزمان، وكيف أن الرسل الذين بُعثوا قبل عصورٍ وعصورٍ ما زالت رسالاتهم ترشد مئات الملايين من البشر، كما أنه إلى جانب عجزه عن الإدارك لا يستطيع أن يوضّح السبب في ذلك، وحين يعجز عن توضيحه فإنه يسعى لإنتاج نظريات “علمية(!)” حسب رأيه هو، ومن ثم ينتهي إلى نتائج خاطئةٍ.
إن هذا المنهج في الفهم عاجزٌ عن إدراك واستيعاب كيفيّة استطاعة الناس -بفضل تشجيع وإرشادات وهمّة فتح الله كُولَنْ- إنشاء المؤسسات التعليمية في شتى أسقاع الأرض، وهو عاجزٌ عن فهم وإدراك مصدر هذه المؤسّسات لأنه يبحثُ عنه في غير أماكنه.
تباينأنماطتقديمالإسلاموتمثيلهمنقِبَلالمسلمين
السبب الثاني الذي يُصعّبُ فهمَ وتقييمَ فتح الله كُولَنْ ومفهومَ الإسلام لديه هو أن الغرب -الذي كان مسيطرًا من الناحية العسكريّة والاقتصاديّة والثقافية على العالم في القرنين التاسع عشر والعشرين- قدّم الإسلام تقديمًا مخالفًا للواقع عبر الاستشراق والتنصير، واستغلال العثرات التاريخيّة إلى حدٍّ ما، وأن بعض المثقفين المسلمين صاغوا تحليلات مختلفة حول الإسلام نتيجة تأثر العديد من المثقفين في البلاد الإسلاميّة بذلك.
لقد دخل العالم الإسلامي القرن العشرين وهو دارٌ للاستعمار، وفي نهاية الحرب العالمية الأولى زالت من التاريخ الدولةُ العثمانيّةُ التي كانت بمثابة حامي هذا العالم وممثّله الأعظم، وفي أعقاب ذلك خيضت حروب الاستقلال في كلّ جنبات هذا العالم تقريبًا حتى أواسط هذا القرنالعشرين، ويسجّل كلٌّ من “فولر (Fuller)”، و”ليسلر (Lessler)” أن عدد المسلمين الذين تسبّب الغربيّون في موتهم في القرن العشرين فحسب أكثر بكثيرٍ جدًّا من عدد الغربيّين الذين ماتوا بسبب المسلمين على مَرِّ التاريخ كله، ويستنتج العديد من المسلمين نتائج شموليّة من هذا النوع من الحوادث المتنامية ضدّ المسلمين على وجه البسيطة والهجمات المشنونة عليهم، ويؤمنون بأن السياسات الغربيّة تهدف إلى إضعاف القوى الإسلامية في كلّ مكان، وعلاوة على أن تقديم الإسلام وكأنه دين إرهابٍ تزامنًا مع إعلانه القطب المعادي للغرب اعتبارًا من عام (1991م) عقب انهيار الستار الحديدي؛ ومحاولة الربط بين تلك الحوادث الإرهابيّة والجرائم التي وقعت في بعض الدول مثل الجزائر وتركيا بالمسلمين، بل والسعي للربط بينها وبين الإسلام، وتعريف “هنتنغتون (Huntington)” جميع حدود العالم الإسلاميّ في تلك الفترة بأنها حدودٌ حربيّة مع الحضارة الغربية، ومن ثم تناوله “صراع الحضارات”، وأخيرًا الهجمات المنظّمة على البلاد الإسلاميّة؛ كلّ هذا أحدث هوّات أعظم بين الإسلام وبين الحكومات المحلّيّة في الغرب والعالم الإسلاميّ.
ومع هذا كله فإن حروب النضال التي خِيْضَتْ في العالم الإسلامي ضدّ القوى الاستعماريّة، واستهدافَ الحكومات الموجودة في البلاد الإسلاميّة ذاتها الإسلامَ على نحوٍ ما، وسلوكَ مجموعة من المثقّفين الموالين للغرب شكلًا تجاه الإسلام والمسلمين، والنزاعاتِ والصراعاتِ التي بدأت في تركيا على سبيل المثال في خمسينات القرن العشرين في أساس الحزبَين: “الحزب الديمقراطي (DP)” و”حزب الشعب الجمهوري (CHP)”، وباختصار الظروف التي عاشها العالمُ الإسلاميُّ في القرن المنصرم قد تسبّبت في ظهور اقتراباتٍ وتفسيراتٍ ومناهجِ فهمٍ متباينة بين المسلمين، بالرغم من “حركات التحرّر القائمة على الإسلام” أو “الإسلاميّة” المنتشرة في كل أرجاء هذا العالم، ولا شكّ أن اختلافَ هذه الاقترابات والتفسيرات ومناهجِ الفهمِ ليس فيما يتعلّق بالإسلام نفسه ولا بأُسُسِهِ كشروط الإيمان والإسلام وأُسُسِ العبادة ودساتير الأخلاق والفروض الأسياسيّة والمحرمات، بل والأسس الشرعية، ولكنه كان فيما يتعلّق بتَمَثُّلِ سلوك إسلاميٍّ في ظلّ الظروف القائمة، ومنظورِ تطبيق الإسلام في الحياة، فإن نحّينا التيارات “الحداثيةَ” -المبتعدةَ تمامًا عن رُوح الإسلام- وبعضَ الأشكالِ الأخرى المشابهةِ لها جانبًا؛ أمكننا أن نتناول الفهمَ والتفسيرات والاقترابات المختلفة المذكورة في مجموعتين اثنتين رئيستين نصنّفهما كالتالي:
الاقترابُ والحركات الإسلامية السياسية الأيديولوجية.
الاقتراب والحركات الدينية.
إنّ “الاقترابَ والحركات الإسلامية السياسية الأيديولوجية” تؤمن من صميم قلبها بأن الإسلام دينٌ قائمٌ على الوحي، وتعتبره المرجع والمصدر الأساس في جميع التصرّفات والسلوكيّات، ومع هذا فإنها حركاتٌ تراه في الظروف القائمة والوقت الراهن دِينًا أيديولجيًّا وسياسيًّا على الأكثر، وتسعى لتطبيقه على هذا النحو، وتناضل على هذا الأساس، وقد وقف هؤلاء على القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة الخاصّة بالمجتمعات الإسلامية والسيادةِ الإسلامية السياسيّة بصفةٍ عامّةٍ من أجل الدعوة الإسلاميّة، وفي مقابل هذا تطرّقوا بالدرجة الثانية إلى المواضيع التي تتبادر إلى الذهن بمجرّد الحديث عن “الدِّين” مثل حياة المسلم اليوميّة والأخلاق والعبادة والقضايا الإيمانيّة، أو أنهم اعتبروها موجودة عند المسلم بشكلٍ طبيعيٍّ أو يجب أن تكون موجودةً، وبتعبير آخر قد أعطوا أبعاد الإسلام الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة الأولويّةَ، ووعوه دينًا ينظّم هذه الجوانب الحياتيّة بالدرجة الأولى، وهكذا قدّموه.
أما “الاقتراب والحركات الدينية” فمع أنها لا تتناول الإسلام تناولًا جزئيًّا؛ إلا أنها حركاتٌ تدافع عن إمكانيّة وجود أطوارٍ وتصرّفاتٍ مختلفةٍ باسم الإسلام في ظروفٍ مختلفةٍ، ووجوب توفّر ذلك؛ وبالتالي فإن الصوابَ هو النظرُ إلى الإسلام في الظروف القائمة من زاوية الجوانب الموجِّهةِ لحياة الفرد اليوميّة والأخلاق والعبادة والإيمان القائم على العلم، وتناولُهُ من هذه النقاط وتقديمُهُ من خلالها، واقتراب فتح الله كُولَنْ إلى الإسلام في الظروف المعاصرة أقربُ إلى الشقِّ الثاني هذا أكثر من الأول.
رؤيةُ فتح الله كُولَنْ للإسلام أومنهجُه في تطبيق الإسلام
وُلد فتح الله كُولَنْ ونشأ -كما عُرض في الفصل الأوّل- في بيئةٍ تُطبّق الدِّين روحيًّا وأخلاقيًّا ومعاملةً، فكانت هذه البيئةُ هي الهالة المعنويّة الدافعة له، حتى كان لها الدور البارزُ والأوّل في تحقيق اختمار الإسلام بداخل فتح الله كُولَنْ اختمارًا معنويًّا أخلاقيًّا، ولقد أسهم تحصيله العلومَ الإسلامية سواء وهو في هذه الهالة، أو وهو في “أَرْضُرُومْ” فيما بعد في ازدواج العلم والمعنويّات بداخله، وعلى حدّ تعبيره هو ازدواج “القلب والعقل”، وتلاحمهما وسيرهما سويًّا في اتّجاه واحدٍ.
وللمسألة بُعْدٌ تاريخيٌّ وآخر نفسيٌّ مهمٌّ جدًّا، ومهما كانت مزاعم المادّيّين ومن لم يتخلّص من رِبْقَة وجهة النظر المادّيّة في العِلم؛ فثمّةَ حقيقة ظاهرة ومُعاشةٌ محسوسةٌ ألا وهي أن الإنسان ليس عبارةً عن ماكينة عُضْويَّة أو مجرّد جسدٍ، إنه -إلى جانب تزويده بالعديد من الملكات كالروح والقلب والوجدان والحسّ والذهن التي يمتلك كلٌّ منها عديدًا من الكُلّيات- في ذاته حُزمةٌ كاملةٌ من المشاعر، بالإضافة إلى أنه مرتبطٌ بالزمان كلّه: ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا مثلما أنه مرتبطٌ بالموجودات التي في الكون جميعها تقريبًا، وهو يشعر إلى جانب هذا بالحاجة إلى العديد من الأشياء في آنٍ واحدٍ، فكما أن حاجاته كالمأكل والمشرب والنوم والتناسل والحماية تحتاج إلى إشباع، ولكلّ واحدٍ من مشاعره الظاهريّة مثل النظر والسمع والذوق والحسّ والشمّ وظيفته الخاصّة به، وبالتالي تُشبعُ بأغذية خاصة بها؛ فإن لكل واحدٍ من مشاعره الداخلية وكُلّياته وظيفة خاصة به أو بها دون غيرها، ومن ثم فإنها تحتاج إلى إشباعٍ خاصٍّ بها، ومن الطبيعي أن تكون لكلٍّ منها معانٍ خاصّةٌ بذواتها يُعَبِّر عنها -بالنسبة للإنسان- العقلُ والفكر والذاكرة والمنطق والتعلّم -والتي يمكننا أن نجمعها كلها مباشرةً في مفهوم “الذهن”- وأن تكون لها أيضًا وظيفةٌ خاصّةٌ تضطلع بالوفاء بها، وبالتالي فإن لكل منها أرضيةً خاصّة بحركته وتجواله ومناخَ تغذيةٍ خاصًّا، ومثل هذا كلياتها الداخلية مثل القلب والروح والمشاعر التي يقوم كلٌّ منها بوظيفةٍ خاصّةٍ بذاته، ووفقًا لهذا يستطيع الإنسان أن يحقّق -بقدر ما يتغذّى- تناغمَه الخاصّ به وأن يطمئنّ قلبه، وحين ينشأ الترابط اللازم بين القلب والعقل أو بين الذهن والروح، ويتحقّق التناغم الداخلي يُوجّه الإنسان حركاته في إطار “الحكمة”؛ ويستخدم جوانبه الظاهريّة الخاصّة كالقوّة والشهوة في إطار مقاييس محدّدةٍ، ويُحافظ على توازنها، وباختصارٍ فإن الإنسان حين يعثر على “العدالة” والتوازن والطريق الوسط بداخله يكونُ عادلًا ومتوازنًا في علاقاته مع الآخرين، وإلا فإن يَحِد العقلُ عن الصواب لصالح الروح أو الروحُ لصالح العقل، والعقلُ والروحُ لصالح القوّة والشهوة أو البدن تظهر على الساحة “أرباع” أو “أنصاف” من البشر، وينعكس هذا الموقف بطبيعته على المجتمع، ومن هذه الناحية فإن تنشئةَ إنسانٍ كاملٍ، وبتعبيرٍ آخر فإن تعليم إنسانٍ تعليمًا كاملًا، وتحقق التوازن والعدالة والطمأنينة لدى الإنسان والمجتمع نتيجةً لذلك؛ يكمن في دراسة الإنسان بكلّ مشاعره وأحاسيسه وكُلّيّاته وفي مقدمتها الروح والقلب والعقل، وقد أصبحت هذه النقطة تُشكّل باطّرادٍ بابًا آخر من الأبواب المهمّة في اقتراب فتح الله كُولَنْ إلى الدِّين.
البعدالتاريخيّللقضيّة
يجب على الإنسان أن يتغذّى قلبيًّا وروحيًّا وعقليًّا وبَدنيًّا كي يستطيع الوفاء بمسؤولياته ووظائفه ومهامه الخاصّة به، ومن ثم يصل إلى الشبع “الإنساني”، ويحظى بالسعادة الحقيقية، ومن الطبيعيّ أنّ إهمال أحد هذه الأمور يحول دون بلوغ الكمالات الإنسانيّة، فإن للدول والحضارات أيضًا كلياتها ومشاعرها، وكذلك حاجاتها المرتبطة بهاتين تحتاج إلى الإشباع والتوفير.
إن الحضارة الإسلامية التي حافظت بقدرٍ كبيرٍ على هويتها الأصيلة في قرونها الخمسة الأولى خاصة؛ تناولت الإنسان وحياته كليًّا، ولذلك أَوْلت الفنون التي اعتبرتها “نور العقل” العناية والمكانة من جانب، واعتبرت من جانبٍ آخر إعمارَ الأرض بالعلوم ضرورةً من ضروريّات الإيمان وسببًا من أسباب وجود الإنسان على سطح الأرض، لأنّ الإنسان هو المستخلَف فيها، وظهرت على الجانب الآخر حضارةُ القلب والروح بفضل حيويّتها المُؤسَّسَة على المعنى النابع من الدِّين والقيم الدينية، واعتبرت الطبيعةَ -التي هي ساحة العلوم- أرضيّةَ ظهور القوانين الصادرة عن صفات الخالق: الإرادة والقدرة، ولم تَرَهُ في أيّ وقتٍ قطُّ يتناقض مع الدِّين الذي هو منظومة متناغمة ومتكاملة من القوانين النابعة من صفة “كلام” الخالق.
ونظرَت الحضارةُ الإسلاميّة إلى العلمِ على أنه تعبيرٌ عن الدِّين بمستوًى مختلِفٍ بالنظر إلى ماهيّته الأساسيّة، ولقد استطاعت أن تُقدِّم سعادةً حقيقيّةً طيلةَ عصورٍ مديدةٍ لقسمٍ مهمٍّ من الإنسانيّة بفضل ازدواج العقلِ والقلب في المجال الإنسانيّ، والعلمِ والدِّين في المجال الاجتماعيّ، وهذا كله على عكس ما نراه اليوم من إقصاءٍ واستخدامٍ سيّئٍ للعلم بحيث لا يعطي الإنسان والإنسانية أيّةَ قيمةٍ، ويؤدّي إلى أضرارٍ تماثل أوجه الخير التي تسبّب فيها، ويُذِلّ الإنسان لما دونه، ولِمَا أنتجه ويستخدمه من الأشياء، ويحرِمُهُ من كلّ القيم السامية التي يمتلكها، ولا يمنح حياته أيّة قيمةٍ، بل إنه يستطيع أن يقتل مئات الآلاف في لحظةٍ واحدةٍ…
ولقد تسلسل علماء الحضارة الإسلاميّة حتى إن “جورج سارتون (GeorgeSarton)” يقسم كتابه المسمى “المدخل إلى تاريخ العلوم (IntroductiontotheHistoryofScience)” حسب التسلسل الزمني، ويُسمي كل قسم من أقسامه باسم العالِم الذي صار رمزًا لذلك العصر، وبهذا الشكل حملت كلُّ مرحلةٍ من المراحل السبعة الواردة فيه -والبالغ طول كلٍّ منها خمسين سنةً بدءًا من القرن الثامن الميلاديّ إلى النصف الثاني من القرن الحادي عشر- اسمَ عالمٍ مسلمٍ؛ مثل عصر الخوارزميّ، وعصر البيرونيّ، كما يذكر “جورج سارتون” إضافةً إلى هؤلاء أسماء مئاتٍ من رجال العلم المسلمين الذين تركوا بصماتهم على عصورٍ مختلفةٍ.
وكما أن رجال العلم هؤلاء لم ينغلقوا على الشكليّات المادّيّة ولم يتخصّصوا في ساحةٍ واحدةٍ فحسب كمعظم أمثالهم ممن تربّوا على الفكر الغربي الحديث، فكانوا متخصّصين في أكثر من مجال، وكان معظمهم إنسانَ روحٍ ومعنًى وقلبٍ في الوقت ذاته، كما كان معظم “الأولياء” الذين تربّوا في جانب المعنى والقلب عالِمين بالرياضيات والفلك وأطبّاء ومؤرخّين أو كيميائيّين.
ولقد تعرّضت الحضارة الإسلاميّة إلى هزّةٍ عنيفةٍ بفعل الاحتلال المغوليّ، وبالرغم من أنها بلغت من العمر خمسمائة عام؛ إلا أنها استطاعت أن تبقى وأن تظلّ مفعمة بالحياة روحًا وماهيةً وحركيًّا؛ بفضل مصادرها الرئيسة التي تضخّ فيها الروح، وسرعان ما رفعت أنقاض هذا الاحتلال وتجاوزت مآسيه، والأكثر من تجاوزها ذلك أنها راحت برغم عجزها عن حماية تفوّقها وقفزاتها العظيمة التي حقّقَتْها في ساحة العلم بصفةٍ خاصّةٍ تسمو وترتقي مجدّدًا مع الدولة العثمانية التي هي بمثابة شُعبةٍ جديدةٍ ممتدّة من الأناضول إلى أوروبا، إلا أن جناح العلوم في هذه الحضارة انكسرَ بحلول القرن التاسع عشر من جانبٍ، وتعرّضت لذبولٍ وفتورٍ عظيم القدر روحًا ومعنًى من جانبٍ آخر، أما الغرب فقد كان في طريقه للاستحواذ على “القوّة” عبر الاكتشافات الجديدة والمسافات التي قطعها في العلم والتقنيّة والمستعمرات والكثير من الطرق الأخرى المشابهة لذلك، هذه القوّة جعلته في نهاية الأمر حاكمًا مطلقًا ومطبِقًا على العالَم، في حين لم تستطع الدولة العثمانية -بحالها المهترئة من كلّ جانب- الصمودَ أمام هذه القوّة وإيقافها، وفي أعقاب الحرب التركية الروسية عام (1878م) تأثّر كلُّ بيتٍ تركيٍّ تأثّرًا عميقًا بالحرب العالمية الأولى التي أعقبت حربَ البلقان (1911-1912م)؛ فانفتحت في كلّ صدرٍ جراحٌ لا تندمل، وزاد على هذا كلّه احتلالُ الأناضول وتقسيمه، ومع توالي وتتابعِ هذه الهزائم التي استغرقت بضعةَ عصورٍ بدأت تنطفئُ في القلوب أسسُ الإيمان كلّها، وعلى رأسها الإيمانُ بالله، الذي هو غايةُ الخلق والحياة بالنسبة للمسلم، وذلك كلّه نتيجةَ قوّةِ الغرب المُبهِرة وتفوّقه المادّيّ، وصار الإسلام -لا سيما في تركيا- غريبًا كما بدأ أول الأمر في مكة المكرمة، وصار القرآن الكريم وكأنّه قد هُجِر، وتحوّل المسلمون على المستوى الشخصيّ والعالم الإسلامي أجمع على المستوَيَين الجغرافيّ والمجتمعيّ إلى خراباتٍ عشّشت فيها البُوم، على حدّ تعبير “محمد عاكف أَرْصُويْ” .
وهكذا فقد أثّر التاريخ الإسلاميّ عامة بازدهاره وانهياره، ولا سيّما التاريخُ العثماني خاصة تأثيراتٍ بالغةً في فتح الله كُولَنْ، ومع أن فتح الله كُولَنْ لم ينحّ مشاعره جانبًا في النظر إلى هذا التاريخ؛ فقد تبنّى اقترابًا عقليًّا وعلميًّا في مواجهة الأحداث، ولم يبحث عن أسباب الانهيار في المجال الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ بالدرجة الأولى، بل رأى أن المشكلة يكمنُ أساسُها في الاعتقاد والفكر مثلما شاهد في الأماكن التي عمل فيها لاحقًا، كما أوصلته دراساته حول الإسلام إلى هذه النتيجة، فكانت هذه النقطة مهمّةً جدًّا تميّزَ بها مفهومُ الإسلام لدى فتح الله كُولَنْ عن حركات الإسلام السياسي الأيديولوجيّة، أي إن فتح الله كُولَنْ لم ينظر إلى التاريخ وتقدُّمِ الحضارات والأممِ وتردِّيها من المنظور الذي نظرت منه الحداثة العثمانيّة والجمهوريّة، كما أنه لم يقترب من المسألة من منظور حركات الإسلام السياسيّ الأيديولوجيّة التي تنظر إلى القضية من الناحية الاجتماعيّة والسياسيّة.
غايةالخلقوجوهرالإسلام
يذكر القرآن الكريم في الآية الآتية ملخَّصًا لجوهر الإسلام ورسالات الأنبياء ووظائفهم ومهامهم فيقول:
﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/151).
﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ أي يقرأ عليكم ما أوحيته من آيات، ويشرح لكم الأدلة القاطعة الدالّة عليّ في الكون، ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ أي يطهّر وينقّي عقولكم من الأفكار والمفاهيم المنحرفة الخاطئة، وقلوبكم من المعتقدات الباطلة والذنوب، وحيواتكم من كلّ أنواع الخبث والدنس، ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ أي يعلمكم فهم ذلك الكتاب، ويلقّنكم السنة التي هي منهج تطبيقهِ في الحياة، ويعلّمكم معنى الأشياء والحوادث، وكيف أنها تدلّ على وجودي.
حقًّا إن هذه الآية مهمّةٌ للغاية في فهم الإسلام؛ إذ ينفتح باب فهمه بمعرفة الآيات وقراءتها، ويُطلِقُ القرآن الكريم على جميع الوقائع والأشياء والحوادث الموجودة في الكون اسم “آية”، كما يُطلقه على كلّ جملةٍ بين إشارتين منه، لأن كلّ واحدةٍ من هذه دليلٌ على وجود الله ووحدانيّته المطلقة ثم إنه دليلٌ عليه بأسمائه وصفاته؛ ولا يمكن أن يُفهم أو يوضح أيّ منها دون ربطه بالله مباشرة، وخاصة أن كل نبيٍّ ولا سيّما كلّ رسول -أي كلّ رسول مهمَّتُه بعثُ الدِّين في مراحل معينة والإتيان بأحكامٍ جديدةٍ وفقًا للظروف والأحوال- يقرأُ الآيات على المجتمع، غير أن فهم تلك الآيات فهمًا صحيحًا، وتفسيرَها مرتبطٌ ببنية العقل المُنقّى من كلّ أنواع القناعات والأحكام المسبقة والخاطئة، وعدمُ تلوّث هذه البنية الذهنيّة وبقاؤها نظيفةً يقتضي أن يعيش الناس كما يؤمنون، لا أن يؤمنوا كما يعيشون، وكي لا يصبح الناس مؤمنين كما يعيشون؛ ينبغي للقلب أن يَطْهُر من الذنوب والميول والرغبات والنيات والأهداف الخاطئة، وهكذا يَنْفُذُ الرسولُ إلى قلوب الناس بشخصيّته وتربيته وأسلوبه في الحياة، ويُنَقّي قلوبهم -بإذن الله تعالى- من الأمراض القلبية، ويمكن لتلك القلوب والأذهان -التي تصفّت وتنقّت على هذا النحو، المفكرة تفكيرًا سليمًا، والناظرة إلى الأشياء والحوادث من منظورٍ صحيحٍ، القادرة على فهمها ووعيها بشكلٍ جيّد- أن تستفيد من الكتب الإلهيّة بقدر ما يجب.
يعني أن للرسول وظيفتين مهمّتين: إحداهما: تعليم الناس التفكير الصحيح وتزويدهم بالمعلومات الصحيحة، أما الثانية: فتطهير قلوبهم وإيصالهم إلى الكمالات الإنسانية، أولاهما تجد معناها ومحتواها في العلم، والأخرى تجده في الإيمان بالله ومعرفته معرفةً حقيقيّة وعشقِهِ تعالى، وازدواج العقل والقلب على هذا النحو يشكّل دائمًا مصدر الحركة والعمل على أساس الحكمة.
وعلى النحو الآتي يكتب فتح الله كُولَنْ فيما يتعلّق بأساس الدِّين أو جوهر الإسلام وأساسه والغاية من الخلق فيقول:
“يحدّد القرآن الكريم “الإيمان بالله” غايـةً لخلق الإنسان في أفق المعرفة وروح المحبة وبُعدِ العشق والشوق وتلوّن الحظوظ الروحانيّـة، والإنسان مكلّفٌ ببناء عالمه الإيماني والتفكُّريّ بمدِّ الدروب من ذاته إلى أعماق الوجود حينًا، وبالتقاط شـرائح من الوجود وتقييمها في ذاتـه حينًا آخر، ويعني هذا في الوقت عينه ظهور الحقيقة الإنسانيّة الكامنة في روحه، فالإنسان لا يستطيع أن يستشعر ذاته، والأعماق في ذاته، ومقاصد الوجـود وغاياته، ويطلع على كنـه الكائنات والحوادث وما وراء سـتار الأشياء،
إلَّا في ضياء الإيمان… وبعد الاطّلاع يحيط فهمًا بالوجود في أبعاده الذاتية” .
الحاملالثلاثي
يُشخّص فتح الله كُولَنْ في العديد من كتاباته وأحادثيه رؤيته للإسلام في صورة حامل “ثلاثي” الدعامات، إحدى هذه الدعامات الأماكن التي “تُحصَّلُ” فيها معنويات الإسلام وروحانيّاته، ويتناول مع تلك الأماكنِ المدارسَ الشرعية التي تُحصّل فيها العلوم الإسلاميّة وتُشكّلُ ثانية دعامات هذا الحامل، ويعتبرهما وجهين لشيء واحدٍ ، فالمدارس الشرعية في الحقيقة ليست مؤسّسات لتحصيل العلوم الدينية فحسب، وقد كانت العلوم الطبيعية تُدرّسُ فيها إلى جانب العلوم الدينية كذلك، غير أن العلوم الطبيعية صارت لا تُدرّس في هذه المؤسسات، وانفصلت العلوم الشرعية عن العلوم الطبيعية تأثُّرًا بالغرب بصفةٍ خاصّةٍ، وبهذا ظهرت المدارس الحديثة التي تُدرَّس فيها العلوم الطبيعيّة فحسب، في حين أنه كما أن الإنسان كُلٌّ واحد لا يتجزّأ بكلّ أعضاء جسده وخلاياه وعقله وقلبه ونفسه، فإن الإسلام الذي يخاطبُ كلَّ عناصر الإنسانِ أيضًا كيانٌ واحدٌ لا يتجزَّأ بكلّ عناصره ومقوّماته بالشكل ذاته، ولا بدّ أن تجتمع المدارس الشرعيّة التي تُدرّس فيها المعنويات والروحانيات والعلوم الإسلامية، والمدارس الحديثة التي تُدرّس فيها العلوم الطبيعية التي تمثّل نتائج مطالعة كتاب الكون تحت سقفٍ واحدٍ، وأن يتّحدَ الأمران ليكوّنا عنصرًا وكلًّا واحدًا، ولا ينفصلان عن بعضهما في مفهوم الإسلام لدى فتح الله كُولَنْ، وقد تحدّث على النحو الآتي بعباراتٍ وتصويراتٍ خاصّة به عن هذا الشأن في حديثٍ أجراه في (1980م):
“إنَّ مَنْ اكتسب بهجة الصحابة والتابعين، وعاش العشق والهيجان والراحة القلبيّة ممّا عاشه الشيخ الجيلاني وأحمد البدوي وحضرة الشاذلي في المؤسّسات في سبيل حياة العلم والعرفان وزَخَر بالعلوم الإسلامية.. وتمكّن من أصول العلوم الطبيعية ومبادئها بدرجةٍ موسوعيّة على الأقلّ.. ولم ينظر إلى الإسلام من جانبٍ واحدٍ، ولا من من زاويةٍ واحدةٍ، ولا يعيش جانبًا واحدًا من الحياة؛ وإنما ينظر إليها بعين التكامل التامّ والكلّيّة .. ومَن عجنَ العلمَ والعشقَ والهيجانَ ومزجها جميعًا في قلبه، إلى أن تكاملت فيه أهليّة الحكمة وأصبحت حميةُ عقلِه طوعَ قلبه.. ولياليه يُحييها بالتهجّد، ولسانُه لا يتوقّف عن ترديد أوراده، سجادته شاهدة على أنّاته، في قلبه الجيّاشِ عشقُ الحقّ والعدالة والجمالُ والخيرُ والصدقُ الذي منحته فطرته، وفي نظرته إلى العالم والحياة والأشياء مِحكُّ أحكام القيم والأفكار القرآنية الصريحُ القاطع، مُضحٍّ مُؤْثِرٌ على نفسه.. ومَن يستطيع ترجمة القرآن وتمثيله بأقواله وأفعاله مستحضرًا تغيُّر الظروف وتطوّر الزمان، فمن اجتمعت فيه كلّ هذه الصفات؛ يعرف ويَخْبُرُ الإطار الاجتماعي والاقتصاديّ والسياسي للعصر الذي يعيشه، ويكون قادرًا على تقييم وتحليل حوادث العالم بفراسة المؤمن وبصيريته…”.
ويتحدّث فتح الله كُولَنْ في مقالٍ له يتناول المسلم الحقّ والعناصر التي تكوّنُ بنيته الذهنيّة والشخصيّة، ويرتّبها على النحو التالي:
“عشق رحب يحيط حسب درجته الوجود كله وينبع من الإيمان الكامل بالله ومعرفته، والتوجّه إلى العلم بثلاثيّة “العقل” و”المنطق” و”الحياة”، وإعادة النظر من جديدٍ في ملاحظاتنا حول الكون والإنسان والحياة وتمييز الخطإ من الصواب، ورؤية تكامل القرآن والكون والإنسان، ووعي الحقيقة التي يلزم معها البحث عن الأعماق الإنسانيّة الحقّة في المشاعر والأفكار والشخصيّة وعيًا جيّدًا، والتحلّي بالشخصيّة السليمة، والقدرة على التفكير الحرّ، وامتلاك حرّيّة الفكر، والمشورة والوعي الجمعيّ، والتفكير الرياضي، وكذلك الفكر الفنّيّ السليم المستقرّ” .
الدِّينوروحالإسلام
يرى فتح الله كُولَنْ:
“أن الإنسان لم يصل منذ وجوده على الأرض وحتى يومنا الحالي إلى الطمأنينة الحقيقيّة وإلى السعادة إلَّا في جوّ الدِّين الدافئ، فكما لا يمكن الحديث عن الأخلاق الرفيعة وعن الفضيلة في غياب الدِّين لا يمكن الحديث عن السعادة أيضًا في غيابه، ذلك لأن منبع الأخلاق والفضيلة هو الضمير والعنصر الوحيد الذي يحكم الضميرَ هو الدِّين الذي هو عبارة عن الارتباط بالله تعالى…
الدِّين مدرسةٌ مباركةٌ تدرس فيه جميع الأخلاق الجميلة، وطلاب هذه المدرسة هم الناس جميعًا أطفالًا كانوا أم شبابًا أم شيوخًا، والذين ينتسبون لهذه المدرسة سيجدون في رحابها الطمأنينة والأمن والهدوء، أما الباقون خارجها المتخلّفون عنها فسيخسرون كلّ شيءٍ، وأول ما يخسرونه هو أنفسهم.
“الدِّين وضعٌ إلهيٌّ سائقٌ لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما يعود عليهم بالخير المحض” فالدِّين هو عنوان معرفة الله وتوحيده والوصول عن طريقه إلى صفاء الروح، وإلى تنظيم علاقاته مع الناس باسمه تعالى وفي ضوء أوامره، بل حتى الوصول إلى شعورٍ عميقٍ بالعلاقة مع جميع الوجود والكائنات وحبّها.
إن ما يُقدّرُ المفاهيم الرفيعة مثل العِرْضِ والشرف والأمة ويحترمها هو الدِّينُ، إنه نبعٌ مباركٌ لأسس المدنية الحقيقية، وهو الذي يسمو بقلب الإنسان وبأحاسيسه، وبه يستطيع الإنسان تجاوز عالمه المادّيّ هذا ليصل إلى عوالم أخرى، فينهل إلى أن يرتويَ من منابع الجمال والخير والفضيلة” .
وفي مقالةٍ أخرى لفتح الله كُولَنْ حول الدِّين يتناول الاتّساق بينه وبين العلم، كما يلفت الأنظار إلى الرؤى الدينية الخاطئة، ويرى أن العلم يشكّل جانبًا من حبّ الحقيقة بينما يشكّل الدِّين الجانب الآخر منها. أجل، هناك علاقةٌ بين الوجود وشعور الإنسان وإدراكه، يقفُ الكشفُ عن الحقيقة وتحديدُها في جانب من تلك العلاقةِ، بينما يحتلُّ الموقفُ الذي سيُتَّخذُ تجاهَ الحقيقةِ الجانبَ الآخر منها، ويتبع العلمُ الأمرَ الأوّلَ بما فيه من مصادر المعرفة الدينيّة، بينما يحدّد الدينُ الأمر الثاني، ونظرًا لأن الدِّين مستودعُ علمٍ واسعٌ بما فيه من مصادر المعرفة؛ فإن عشق الحقيقة عنصرٌ حيويٌّ بالنسبة للولع بالحقيقة، كما أنه ديناميّة مهمّة، ودليل واضح الأسلوب في المواضيع التي تتجاوز أفق المعرفة، لكنه عميق الأداء غيرُ مضلّل، ومع أنه أمكن دائمًا تضييقُ أفق العلم بحيث جُعل بمثابة شيءٍ احتياطيٍّ لفكرٍ وتيّارٍ ومبادئ معيّنة، وجُعل وكأنه غولٌ لا يُطاق، مشاكسٌ يقطع طريق الحقيقة؛ فمن المحتمل دائمًا أن يقدّم الدينُ -الذي هو حقيقةٌ سماويّةٌ- على أيدي الفكر المتعصّب وكأنه مصدر لمشاعر الحقد والكره والغيظ والانتقام، ويؤمن فتح الله كُولَنْ بأنه:
مهما تغيّرت الدنيا وتبدّل حالها من حالٍ إلى أخرى ومهما تقدّم مستوى العلم والعلوم الطبيعية، ومهما تبدّلت قناعات الإنسان وآراؤه فإن الشعور الدينيّ قد أثبتَ عبر التاريخ أنه المؤثّر الأوّل في تشكُّل الحياة العلميّة والفكريّة وكان العامل الأوّل في نشأة حضاراتٍ جديدةٍ ونموّها، وتكامل البشريّة، ولا يزال كذلك إلى اليوم، وبفعل قوّته الساحرة هذه؛ يؤثر في قسمٍ عظيم من الدنيا، وسيظلّ يحافظ على تأثيره باعتبارهِ المؤثِّر الأول .
ويرى كُولَنْ أن ما تعانيه الإنسانية اليوم هو خواء القلب والروح، إلا أن الجهود والمساعي جميعها تُوجَّه لإشباع الرغبات الجسمانيّة فحسب، وهذا “خطأٌ” عظيمٌ، ويرى أيضًا أن محاولتنا ريَّ عطشنا بشرب ماء البحر لا تختلف شيئًا عن محاولاتنا تسمين أجسادنا وأبداننا لأجل إزالة جوعنا المعنويّ وحاجاتنا المعنويّة، حيث إن الجوع والعطش الحقيقيّين للإنسانيّة جمعاء يكمن في البُعد عن روح الدِّين الحقّ أي عن روح الإسلام وهو لا يقصد بـ”روح الإسلام” تلك التي فقدت بريقها وبهت لونها الآن من وجهة نظرنا وتقييماتنا، وتبخّرت باعتبار سحرها السماويّ، وإنما يقصد بها روح الإسلام التي لا تزال محسوسةً بأطيافها وزخارفها في طائفةٍ من الأرواح النقيّة الطاهرة، والتي أحسّ بها الإنسان وعاشها في عصر السعادة، ويمكننا أن نرتب المواد والعناصر المأخوذة من قوله المتعلق بماهيّة تلك الروح التي تصهر الحياة الفرديّة والمجتمعيّة في بوتقتها الخاصّة وتشكلها فنقول:
الحقُّ والعدل والمساواة والأمن العالميّ وتمثيلها في إطار الارتباط بالحقّ تعالى دون استغلالِها لصالح الرغبات الجسمانيّة والنفسيّة.
مساندة الحقّ، والتمسُّك به ونصرتُه واحترامه.
تقبيحُ الظلم، وعدم الخنوع والإذعان لإملاءات القوى الظالمة الجائرة.
ارتضاءُ العدل والصدق في كلّ شيءٍ نمطًا للحياة الشخصيّة والأسريّة والاجتماعيّة بأوسع معانيه وتطبيقُ ذلك في الحياة، والتفكير والعيش السليم، والعمل الدائم على التحرّك في إطار الحقّ والحقّانيّة.
الوقوف في مواجهة الظلم والطغيان، وحماية الحقوق الشخصيّة والتصرّف بحساسيّة فيما يخصّ حماية حقوق الآخرين، وبقدر تلك الحساسيّة والعناية التي تظهر فيما يتعلّق بالتحيّز، بل والأكثر من ذلك؛ التنبُّه لضرورة العيش بميزانٍ واتّزانٍ دائمٍ وكأنّ الحياة رهنُ ميزانٍ تُوزَن به.
الوقوف الواضح والصريح ضدّ التمييز القائم على اللون أو الجنس أو المنطقة أو العائلة.
ذمّ الكيانات والبِنَى القائمة على الحسَب والنسَب، ورفض سيادة الطبقة رفضًا صريحًا حتى وإن كان ذلك في وحدة من وحدات الحياة فقط.
فتح المجال للقدرات الشخصيّة، ومباركة النجاحات، والنضال والكفاح ضدّ كلّ أنواع الملاحظات الفوضويّة.
احتواء كلّ أفراد المجتمع وقطاعاته بدرجةٍ واحدةٍ من الحميميّة.
تقييم احتياجات الجميع وتطلُّعاتهم على حدٍّ سواء، وتطبيق قاعدة “لا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلا بالتقوى” قدر الإمكان.
التسليم بأن جميع الشرور تصدر عن النفس بالدرجة الأولى، ومن ثم يجب السعي إلى انتزاع تلك الشرور من الأرواح وتخليصها منها عبر تعزيز الإرادة الشخصيّة بالوعي الإيمانيّ والمعرفيّ والإحسان.
ربط الحياة بإسعاد الآخرين، والعزم على هبة الحياة للآخرين وإعاشتهم أكثر من العيش والحياة للنفس فحسب.
الصمود وعدم الاستسلام في مواجهة أيّ تعرُّضٍ لظلمٍ أو تعدٍّ أو حرمان.
التصرّف دائمًا كواحدٍ من فدائيّي المحبّة، واحتضان الجميع واستيعاب الكلّ.
احترام جميع الفِكَر.
البحث الدائم عن الطرق المؤدية إلى درجة “الإنسان الكامل”، وفعل كلّ ما يستلزمه هذا الطريق.
التخلّص بالعبودية لله تعالى من صنوف العبودية التي تُذِلُّ الإنسان كعبوديّة الأهواء والقوّة والشهوة والشهرة، والنجاة بذلك من الدناءات والضِعَات .
عناصرأخرى مهمّة في رؤية فتح اللَّه كُولَن الإسلاميّة
وكما حاولنا بيانه آنفًا فإن فتح الله كُولَنْ يعطي الأولويّة في رؤيته الإسلاميّة إلى “الإيمان” ثم إلى “البُعدِ المعنويّ للدين” و”تنقية القلب من الآثام وتطهيره”، ثمّ “التشبّعِ بالعلوم الدينيّة”، وباختصارٍ؛ فإنه يُعطي الأولويّة إلى “الانبعاث الروحي”، و”تنوّر العقل بالعلوم الطبيعيّة”، ولأن تُولدَ وتظهر نتيجةَ ازدواجهما حركةٌ وفكرٌ أو نمطُ حياةٍ أساسه الحكمة، ودائمًا ما ترتكز العناصر الأخرى في رؤيته الدينيّة على هذا الأساس، وأكثر نقطةٍ اهتمّ بها فتح الله كُولَنْ في هذا الإطار هي إدراك حقيقة العبوديّة وحقيقة الألوهيّة ووعيهما وعيًا جيّدًا جدًّا، ويفتقر العبد من أجل الوصول إلى ذلك الوعي؛ إلى معرفة الله معرفةً حقيقيّةً، وأن يتّخذَ ذلك الأمر ثقافة لضميره، وأن يُدرك وعي عبوديته لله، ويمكن أن يتحقّق هذا بأن يدرك العبد -أول ما يدرك- عجزه المطلق أمام قدرة الله تعالى المطلقة، وأنه بقدرة الله تعالى وباعتماده عليها فحسب يستطيع أن يكون قادرًا مقتدرًا، ويدرك فقرَه المطلق أمام غِنَى الله المطلق واستغناءهُ تعالى عن غيره، أي بإدراكه أنه يحتاج تمامًا إلى الله تعالى، ويعبده في شوقٍ وتوقٍ، ويشكره.
أ. الوصولإلىالتوحيدبإدراكمعنىالعبوديةللَّه
إن العلاقة بين الله والعبد في الإسلام ليست كما في سائر الأديان، فمن يعبد الله مدركًا أنه لا يمثل شيئًا أمامه تعالى، ويركن إلى قدرته تعالى ونِعَمِهِ؛ يتخلّص من العبودية لأيّ شيء سِوَاه، ويَنجُو كذلك من صنوف العبوديّة الأخرى التي تُذِلُّ الإنسان كالعبوديّة للأهواء والقوّة والشهوة والشهرة، ومن ثمّ ينقذ نفسَهُ من الدناءات والضعات، وهذه أكثر نقطةٍ يركّز عليها فتح الله كُولَنْ، إذ يُلاحظ أنه وقف على هذا الموضوع مرارًا وتكرارًا، وتناوله بحساسيةٍ في كثيرٍ من كتاباته ولقاءاته، فمثلًا ما قاله في هذا الموضوع في أحد لقاءاته التي سُجّلت ونُشرت أيضًا مهمّ إلى حدٍّ كبيرٍ:
“كان فضيلة الشيخ “محمد لطفي أفندي” يقول:
“إن البلاء الأكبر بالنسبة للإنسان هو أن يُسلِم نفسَه للغفلة”.
والمسلمون أو الذين التزموا بإسلامهم يتّجهون مؤخّرًا -لا أعرف لماذا!؟- إلى الساحة السياسيّة، في حين أن جميع القضايا تبدأ من “الأنا”، وتنتهي في “الأنا” كذلك، وقد تجلّت كلُّ الأسماء الإلهية في الإنسان، ومن ثم نال نصيبه من قول الله تعالى “أنا” باعتباره أكبر مرآةٍ تتجلّى فيها أسماء الله، وقد ظهر هذا التجلّي لدى الإنسان في صورة “أنا” غير أنَّ “أنا” الإنسانِ ليس مستقلًّا بنفسه، لأنه ليس من صنع نفسه؛ إنه خط دقيق جدًّا، نقطةٌ لا تسهُل رؤيتها، وبتعبير آخر إنه صفر اليدين خالي الوفاض فارغ، ومع هذا فإنه يظلّ في هذا الضعف والفقر المطلَق يعكس كلّ تجلّيات القادر القويّ الغنيّ ذي الجلال والإكرام، فإذا نسبَ الإنسانُ كلَّ شيءٍ يتوهّم وجوده في نفسه من قوّةٍ وحياةٍ وإرادةٍ وعلمٍ وجمالٍ وكلّ ما يملكه من أوجه الخير إلى الله تعالى، ورأى نفسه في غايةِ الفقر والضعف ورآها مجرّد مرآةٍ شفّافةٍ للخالق، يصلُ حينئذٍ إلى أعلى مرتبةٍ في التسلسل الهرميّ للمخلوقات؛ أي أعلى علّيّين، فيكون قادرًا بقدرة الله، غنيًّا بغنى الله، مريدًا بإرادة الله، عالمًا بعلم الله تعالى، وذلك حين يُبصر فقرَه وضعفَه وذُلّه أمام الغنيّ القويّ العزيز”.
“وإن أَسْلَمَ الإنسانُ نفسه وروحه للغفلة، ونسبَ كلَّ شيءٍ أودعه الله تعالى أمانةً فيه -حياته وقوّته وثروتَه وملكاته وجماله ونجاحاته- إلى نفسه غاصبًا إيّاها من صاحبها الحقيقيّ بدلًا من أن يستخدم الـ”أنا” التي وهبها الله له كوحدةٍ قياسيّة يعرف بها عظم وإلطاقَ أسماء الله وصفاته، وهَمَّ يتحدى اللهَ، تتضخّم الـ “أنا” التي منحها الله له حينئذٍ وتزداد وتتكبّر بسبب شعوره بانتسابه إلى جماعةٍ أو وظيفةٍ أو مجموعةٍ ما فيقضي على نفسه ويبادر إلى محاولة تقسيم تصرف الله في ملكه على الموجودات حقيقية كانت أو خيالية، فينتجُ حسب هواه مجموعةً من الآلهة، وقد تفاخر وتباهى هكذا كثيرٌ من أمثال فرعون والنُّمْرُود وأبي جهل، وكما أن “أنا” كلٍّ منهم قضت على صاحبها، فقد أصبح كل وثنٍ من الأوثان المعبودة رمزًا لذلك “الأنا”. والكائنات الوهمية المتعددة ومنها قوى الطبيعة المزعومة التي تُسند إليها في يومنا الحاضر عمليّةُ الخلق، وكل ما يوافقها ويتبعها من سلوكٍ أو يغذي ويدعم هذا التوجّه مِن علمٍ وغيره؛ كل ذلك عبارة عن طاغوتٍ تنتجه الأنانية لأجل تقسيم ملك الله وتصرفه تعالى في ملكه، وكنتيجة لذلك: فإن معرفة ماهية “الأنا”، وبالتالي معرفةَ الخالق تعالى ومعرفة الخَلْق من عدسة معرفة “الأنا” هذه تلعب دورًا مهمًّا في حل جميع المشكلات التي تظهر في كل مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبالمقابل عدمُ هذه المعرفة مصدرٌ أساسٌ لظهور هذه المشكلات.
ويلزم الإنسان أن يتوجّه إلى صاحب القدرة والثروة الحقيقية، وأن يؤمن بأن كلّ شيءٍ تحت تصرّفه هو، وذلك بتعرّفه على ماهية نفسه وذاته الحقيقية، وإدركه أنه في حدِّ ذاته مخلوقٌ عاجزٌ وفقيرٌ” .
وفي هذا الإطار أيضًا يركّز فتح الله كُولَنْ بحساسيّة شديدةٍ على “التواضع وهضم النفس وذلّها” ويرى أن المؤمن ينبغي له أن يستشعرَ ويُدركَ غايةَ ضعفه وفقره بين يدي الله، وعليه أن يتواضع دائمًا لله وأمام الناس، وأن يخجل دومًا بسبب ذنوبه وتقصيره فيما يجب عليه الوفاء به، فالخجلون المتواضعون يصلون إلى المراتب العليا عند الحقّ وعند الخلق أيضًا، أما المتكبرون المتفاخرون فيتعرّضون لبغض الناس لهم، وعذاب الحقّ تعالى، إن التواضع دليلٌ على نضوج الشخص وعظيمِ فضله، بينما التكبُّر والعُجب دليلٌ على ضَعَتِه وتردّي مستواه، وارتقاء الشخص إلى مرتبة الإنسانية يتّضح بتواضعه، ويتّضح تواضعه بألا تغيّره تلك الأشياء -التي يقدّرها الخلق- مثل المنصب والجاه والمال والعلم” .
ب. الرضاوالإخلاصوالتقوىواليقينوالصدقوالأمن
يشكّل الرضا والإخلاص والتقوى الخطوطَ الرئيسة للنقطة الأساس في رؤية فتح الله كُولَنْ الإسلاميّة من زاوية أخرى.
وللرضا بُعدان: البعد الأوّل هو استهداف رضا الله تعالى دائمًا والتخلّص تمامًا من كلّ غايةٍ ورغبةٍ في أيّةِ فكرةٍ وتصرّفٍ وعملٍ سوى رضا الله، وهذا البُعد أساس مهمٌّ في العبودية، إنه قضيّة كمالٍ بالنسبة للمؤمن، ولا بدّ من خُلوصِ النيّة وسلامتها أوّلًا من أجل الوصول إلى هذه النقطة، ثم الانشغالِ بالمثاليّات التي تسمو بالروح، والتحلّلِ من المصالح الشخصيّة، والتخلّصِ من العجب بالنفس، كذلك هناك نقطة أخرى مهمّة جدًّا؛ ألا وهي ضرورة الانشغال الروحيّ والفكريّ في كلِّ لحظةٍ من أجل نسج خليّة معرفةٍ متميّزة في معرفة الله .
أما ثاني أبعاد الرضا فهو الرضا بالله إلهًا وربًّا، وبالإسلام دينًا، وبسيّدنا محمد رسولًا؛ أي مقابلة ما قدّره ودبّره سبحانه لنا برحابة صدر، إضافةً إلى محبّة الله وتعظيمه، والتوجّه إليه، ورجاء كلّ شيءٍ منه وحده، أما “الرضا بالإسلام” فيعني جعله منهجًا لحياتنا بكلّ جوانبها، وأما فيما يخصّ “الرضا برسالة سيدنا محمد ” فهو كمالُ الانقياد له، والتسليم المطلق له، وتسليم قيادة المنطق وزمام العقل إلى أمره ، .
أمّا “الإخلاص”: فيعني الصدق والصفاء في الفكر والسلوك، والبعد عن الرياء، والكفّ عن كلّ ما يكدّر القلب، ومداومة العيش هكذا، أو صفاء القلب، واستقامة الفكر، والبعد عن الأغراض الدنيويّة في العلاقة مع الله، وإيفاء العبوديّة حقّها، وبتعريفٍ آخر: فإن الإخلاص في عبادة الفرد وطاعته؛ هو كفّه عن كلّ ما هو مخالفٌ لأمر الله تعالى وإرادته وإحسانه، وحفظه الأسرار التي بينه وبين المعبود بحقٍّ وهو الله سبحانه، وقيامه بأعماله على أساس عَرضها على الناقد البصير، إنه قيام العبد بواجباته ومسؤوليّاته، لأن الله أمر بها فحسب، وابتغاؤه رضاه تعالى فقط لدى أدائه إيّاها، وتوجّهه لألطافه الأخرويّة .
و”التقوى” أمرٌ آخر من أكثر الأمور التي ركّز عليها فتحُ الله كُولَنْ بحساسيّةٍ شديدةٍ؛ إذ يضع بُعدَها المعنويّ والروحيّ في مقدّمة رؤيته الإسلاميّة دائمًا، ويأتي بتعريفٍ مختلفٍ عن تعريفات التقوى التي شاع ذكرُها، حيثُ يرى في تعريفه ورؤيته للتقوى أنها ذات بُعدين اثنين؛ مثلها مثل “الإسلام” في ذلك، فأحد بُعْدَي الإسلام هو أنه اسم الدِّين الذي أرسله الله على أكمل وجهٍ بواسطة محمد النبيّ الخاتم كي يؤمن به الناس بمحضِ إرادتهم، هذا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر فإن جميع المخلوقات -غير الإنس والجنّ ذوي الإرادة-؛ مُسلِمةٌ؛ لأنها سلَّمت لله وأطاعته، وعاشت حيواتها سيرًا على قوانينه، ووفت بما عليها من وظائف أو مهمّاتٍ دون أن تنحرف قطّ، أي إن الإسلام يشمل أيضًا مجموع القواعد والقوانين الدينيّة أو الإلهيّة التي يسير عليها غيرُ الإنس والجنّ من المخلوقات أيضًا، وكما سنَّ الله تعالى القوانين والقواعد من أجل عقيدة الإنسان وعبادته وأخلاقه ونمط حياته فقد سنَّ قواعد من أجل تنظيم طريقة عمل الكون وحياة الإنسان الاجتماعية والخاصّة، وهي موضوع للعلوم الطبيعية؛ أي للفيزياء والكيمياء والفلك والأحياء والاجتماع، ويُطلق عليها في الاصطلاح الإسلامي اسم “الشريعة التكوينيّة” أو “الشريعة الفطريّة”، والحدّ المشهور للتقوى يقول: “هو جهد الامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه؛ تجنّبًا لعذابه” ولذلك فإن التمكّن من التقوى أي التمكّن من الدخول في حماية الله تعالى في الدنيا والآخرة مرتبطٌ بالوفاء بهاتين المجموعتين من القوانين أي الشريعة الفطرية إلى جانب الشريعة الغراء (أي الأحكام الدينيّة)، وبالتالي فإن التقوى اسم لاتّباع هاتين المجموعتين من القوانين، فالمتقي عنده مَن يتجنب مخالفة القوانين التكوينية كما يتجنب مخالفة أحكام الشرع، فمخالفة أحكام الشرع تعاقَب في الآخرة غالبًا، لكن القوانين التكوينية تعاقب مخالفتُها غالبًا في الدنيا.
أما “اليقين” الذي هو: “العلم القاطع السليم والصحيح الذي لا يشوبه أيُّ تردّدٍ أو شكٍّ” فيعني معرفة أسُس الإيمان ولا سيّما وجود الله والإقرار بوحدانيّته -التي هي أعظم أركان الإيمان- إقرارًا لا يحتمل شيئًا خلاف ذلك، وتمام الرضا والإيقان والإحساس به، والوصول إلى أفق العرفان الذي تكاملت معه ذات الإنسان، إنه الوصول إلى نقطةٍ تسمو على جميع النقاط التي تُوصّل إليها باستعمال سبلِ كشف مصادر المعرفة كلّها ووجود الأشياء، وأسرار الوجود والحقائق الإيمانية .
اليقين صفةٌ مهمّة جدًّا تُظهر أن الإيمان في الإسلام ليس كما في المسيحية أو في غيره من الأديان؛ بالإضافة إلى أنه يقوم ويعتمد على العلم القاطع، أو أنه يؤيد هذا الرأي على الأقل، بخلاف الفكر الحديث الذي يفصل ما بين العلم والإيمان بخطوطٍ قاطعةٍ محدّدة ويرى الإيمان مجرّد قناعةٍ تقليديةٍ وارتباطٍ بالشيء دون إحساسٍ بضرورة فهم ووعي جوهر الأمر وأساسه.
ولليقين مراتبه؛ فمرتبة “علم اليقين”: هي الوصول إلى أقوى إيمانٍ وأقطع إذعانٍ بوصاية الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة، بينما مرتبة “عين اليقين” هي: الوصول إلى معرفةٍ تفوق التعريف، تكسبها الروحُ بالكشف والمشاهدة -وهي الملاحظة والوعي بالقلب وبالأحاسيس الداخلية- والإدراك والاستشعار الذي لا يُدركه الفكر الحديث، أما مرتبة “حقّ اليقين” فهي الحظوة بمعيّةٍ ذات أسرارٍ، من دون حائلٍ ولا ستارٍ، تتجاوز التصوّرات، ومن دون كمّيّة ولا كيفيّة، وقد فسّر بعضهم هذه الخظوة بفناء العبد تمامًا من حيث ذاته وأنانيّته ونفسه، وقيامه بذات الحقّ سبحانه .
وباختصارٍ فإن اليقين يُعتَبَرُ أكبرَ وأقوى صفعةٍ وُجِّهت للتقليد والتعصّب والجهل والسفه والعبثيّة، وهو يُشَكّل -إلى جانب كونه أحد أسس الإسلام- واحدةً من نقاط رئيسة في رؤية فتح الله كُولَنْ الإسلاميّة.
ويهتم فتح الله كُولَنْ بكلّ ركنٍ من أركان الإسلام حسب مكانه ونسبته فيه، ويركّز بحساسيّةٍ شديدةٍ على “الصدق” و”الأمانة” اللذَين هما من أهمّ أسس الإسلام، واللذين زادت أهمّيتهما سيّما في يومنا أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، فكلاهما أهمُّ صفات الأنبياء.
أجل، إن الصدق هو محور النبوّة، لأنّ النبوّة تدور في فلك الصدق؛ فكلّ ما تلفّظه الأنبياء صدقٌ خالصٌ، ولا يمكن أن يجافي الواقع أو الحقيقة، وعندما يشرح القرآن الكريم فضائل الأنبياء يشير إلى هذه الصفة عندهم، كما أنه حين يقصّ عظمةَ بعض الأنبياء يحدّثنا عن صفة الصدق لديهم فيقول تعالى في نعت إبراهيم : ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ (سورة مَرْيَمَ: 19/41)، ويقول في وصف إسماعيل : ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ (سورة مَرْيَمَ: 19/54)، وكذلك في إدريس : ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ (سورة مَرْيَمَ: 19/57-58)، وكذلك في يوسف فيقول: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ (سورة يُوسُفَ: 12/46).
وكيف لا يكونون مجهَّزين بالصدق والله تعالى يثني على الصادقين ويأمر المؤمنين كافّة أن يكونوا صادقين، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (سورة التَّوْبِةِ: 9/119)، وقال أيضًا: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (سورة الْحُجُرَاتِ: 49/15)، وقال : ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (سورة الأَحْزَابِ: 33/23-24) .
“الصدق هو جَعْل الإنسان الصوابَ والتصرّفَ الصحيح القويم جزءًا من طبيعته، ومَلكةً في مشاعره وتفكيره وكلامه وسلوكه؛ بدءًا من حياته الشخصيّة إلى معاملاته مع الآخرين، ومن شهادته باسم إعلان الحقّ، إلى مزاحه وهزله، متحرّيًا إيّاه في محيطه الذي يعيش فيه وفي أصحابه أيضًا، فالصدق أقوَم طريقٍ موصل إلى الحقّ سبحانه، إنه روح العمل ولبّه، وأصوب محكّ لاستقامة الفكر، بالصدق يتميّز أهل الإيمان من أهل النفاق، وسكّانُ الجِنان من أهل النيران، الصدق أن ينتقل الفرد من حالٍ إلى حالٍ ويَتَلَوّى من أجل أن يصون تكامل عمله وسلوكه، ويتطابق فكره مع عمله وتصرّفه .
أما الأمانة وهي الصفة الثانية من صفات الأنبياء؛ فمشتقة من “الإيمان”، والمؤمن هو الشخص الذي يحمل صفة الإيمان ويعطي انطباعًا بالأمن، فكما أن الأنبياء في ذروة الإيمان، فكذلك هم في ذروة الأمانة، والقرآن الكريم يشير إلى صفتهم هذه في آياتٍ عدّةٍ؛ ولا سيّما في سورة الشعراء التي ذكرت فيها على التوالي قصص خمسةٍ من الرسل وهم سيدنا نوح وسيدنا هود وسيدنا صالح وسيدنا لوط وسيدنا شعيب ويبيّن القرآن أن هؤلاء الرسل حين قدّموا أنفسَهم لأقوامهم قال كلٌّ منهم: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ ، فذُكرت هذه العبارة خمسَ مرّاتٍ في سورة الشعراء، ومرةً في سورة الدُّخَان،وبـ﴿وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ في سورة الأَعْرَاف وفي كلِّ مرّةٍ نقلًا عن نبيّ من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام والتسليمات.
“وكما أن “المؤمن” اسمٌ من أسماء الله الحسنى، فهو كذلك من الأسماء المهمّة للمعتقدين بالله، أجل، الله “المُؤمنُ”؛ لأنه مصدرُ الأمن والأمان والثقة والاطمئنان، فهو الذي يمنحنا الأمنَ والثقةَ؛ أحيانًا قطرةً قطرةً، وأحيانًا أخرى مثل الشلّال المنهمر، وهو الذي زيّن الأنبياء بصفة الأمن والأمان، ومن ثَمّ فإن صفة الأمن والأمان والإيمان تربطنا ربطًا وثيقًا بالأنبياء، وتربط الأنبياء بالله تعالى، إذًا؛ فهذه الرابطة تقودنا إلى العلاقة بين الخالق والمخلوق، فجميع هذه المعاني موجودةٌ في الاشتقاق الجذريّ لكلمة “الأمانة”، علمًا بأن أهمّ ناحيةٍ في هذا الموضوع هي فهم هذه العلاقة، وكما أن الأمانة من أهم صفات الأنبياء والمرسلين، وفي مقدّمتهم نبيّنا محمد ؛ فهي كذلك من أهمّ صفات جبريل ، إذ القرآن يقول: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَنَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ﴾ (سورة الشُّعَرَاءِ: 26/192-193)، ويقول ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ (سورة التَّكْويرِ: 81/21)،ومن ثمّ فقد جاءنا القرآن الكريم من عند الله تعالى مصدر كلّ أنواع هذه الأمانة” .
ج. العبادةوالدعاءوالأخلاق
يعتمد الإسلام في الأساس على الإيمان، وجميع العناصر التي وقفنا عليها آنفًا والتي تتمتّع بمواقع مهمّة جدًّا في رؤية فتح الله كُولن الإسلاميّة تنبع من الإيمان وتعتمد عليه، وهي نتائجه أو ثماره، وتأتي “العبادة” بعد الإيمان؛ حيث إنّ الإيمان ينمو في تربة العبادة بالتفكُّر والتأمُّل إلى أن ينضجَ ويؤتي ثمارَه، وبالتالي فإنه كما يستحيل تصوُّر إيمانٍ دون عبادةٍ، فلا يمكن القبول بوجود عبادةٍ دون إيمانٍ؛ ذلك أن الإيمان والعبادة يرفعان الإنسان من مجرّد كونه “إنسانًا بالقوّة” إلى مستوى “الإنسان الكامل”، وعلامة ذلك الأخلاق، فقد ورد في حديثٍ نبويٍّ شريفٍ: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ” إنّ غاية إرسال الرسل هي تعريف الناس بالله، وإيمانُهم به وعبادتُهم إيّاه حقَّ الإيمان والعبادة، ومن ثم التحلّي بالفضائل الأخلاقية، وتمكينُ كل إنسانٍ من أن يكون إنسانًا حقيقيًّا، ومن هذه الزاوية فإن الناظرين إلى ما ألّفه فتح الله كُولَنْ مباشرةً أو إلى أحاديثه التي فُرّغت وحوّلت لاحقًا إلى كتبٍ يرون كَمْ أنه ركّز على العبادة، سيّما الصلاة والصوم والزكاة والحجّ التي هي من أركان الإسلام، وكم كان حسّاسًا دقيقًا في أمر الأخلاق وبناء الشخصيّة.
وإلى جانب العبادة والأخلاق، فإن “الدعاء” -الذي هو مُخُّ العبادة أو هو العبادةُ نفسها كما جاء في الحديث – أحدُ أهمّ العناصر التي أكّد عليها فتح الله كُولَنْ بإصرارٍ، وتناسبًا مع معنى وأهمّيّة الآية الكريمة: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ﴾ (سورة الفُرْقَانِ: 25/77) يُولِي فتح الله كُولَنْ الدعاء اهتمامًا كبيرًا إلى هذه الدرجة فيقول:
“إن العبادة هي أن يشكر الإنسان ربّه على النعم العديدة التي لا تُحصى -كالوجود والحياة والشعور والإدراك والإيمان- بذاتِ النِّعمة، فيشكر الله -مثلًا- على نعمة الإيمان بالإيمان نفسه، أما عدم العبادة فإنها جحودٌ للنعمة غليظٌ دون شكٍّ”، مقرّرًا بذلك أن “العبادة هي طريق وصالٍ، وآداب هذا الوصال وضعها الله تعالى لنا للوصول بها عن طريق الإيمان إلى سعادة الدنيا والآخرة، والذين لم يعثروا على هذا الطريق ولم يحصلوا على هذه الآداب لا يمكنهم الوصول أبدًا إلى الحقّ تعالى”، وبحسبه فـ”إن كثيرًا من الذين انغلقت قلوبهم وأرواحهم دون الحقيقة يُمضون حياتهم وراء مسائل نظريّةٍ وخياليّةٍ وحتى لو قضى هؤلاء حياتهم في ظلِّ أفصح وأبلغِ بيانٍ فلن يستطيعوا تسجيل تقدُّمٍ ولو قيد شبرٍ واحدٍ”، ذلك لأن العبادة “نبعٌ فياضٌ مباركٌ لتقوية نواحي الخير والجمال والصدق في فكر الإنسان، وإكسيرٌ سحريٌّ يُصلِح أهواء النفس ونزعاتها الشرّيرة ويُحوّلها إلى عالم الملائكة، والشخص الذي يتوجّه إلى هذا النبع يوميًّا عدّة مرّاتٍ بالفكر والذكر هو شخصٌ عازمٌ على السير في درب الوصول إلى مرتبة “الإنسان الكامل” ويكون قد عثر على الملجإ الذي يحفظه من دسائس النفس” .
ويذكر فتح الله كُولَنْ “الإيمان” و”العمل”، أي انعكاس الإيمان على الحياة اليومية أو تطبيقه فيها كأساسين متلازمين لا ينفصلان عن بعضِهما؛ فيُعرّف الإيمانَ بأنه: “يقينٌ بما يجب الإيمان به على نحوٍ لا يحتمل الضدّ مطلقًا”، أما العمل فيتناوله في إطار العبادة ويقيّمه على النحو الآتي:
“إن قيامَ المؤمن بذاتِهِ وتكاملَه مع جوهره لا يمكن أن يتحقّق إلا بالعبادة، وقولُ الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانت (ImmanuelKant) (1724-1804م)”: “يُعرف الله بالعقل العمليّ، لا بالعقل النظري” تعبيرٌ عن هذا الحكم بطريقةٍ وشكلٍ آخر، ومن الوارد دائمًا أن ينحرف عن الطريق ويزيغ ذلك الإنسانُ الذي لم تصبح العبادة جزءًا من طبيعته ولم تتعمّق وتتأصّل فيه… ولهذا السبب فإنه من الواجب على الشبابِ المثقّف في القرنَين العشرين والحادي والعشرين أن يتحوّلوا بالعبادة من النظريّة إلى التطبيقيّة” .
ويضيف كُولَنْ تحقيق النفع العام للناس إلى مفهوم العبادة لديه كنقطةٍ من نقاط الانطلاق الأساسيّة في اقترابه من الإسلام، فيرى أن “أفضل العبادة هي معرفة الله تعالى وحبَّه ونفع الناس، وذروة الذرى هذه تشير إليها بَوْصَلةُ الوجدان التي تبحث على الدوام عن مرضاة الله تعالى في ظلِّ دستور ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ (سورة هُودٍ: 11/112) والمؤمن الحقيقيُّ هو المؤمن الذي يبحث عن الحقِّ دائمًا” .
وأوّل ما يخطر بالذهن عند الحديث عن “العبادة” هو “الصلاة”، فقد أقرّ الإسلام أن الصلاة هي النقطة الفاصلة بين الإيمان والكفر،
وقد أُولِيتِ الصلاةُ أهمّيّةً عاليةً بهذا القدر، وكما هو الحال في العديد ممّا كتبه فتح الله كُولَنْ فقد تناول في كثيرٍ من أحاديثه ولقاءاته أيضًا الصلاةَ التي هي رأس العبادات كلّها والتي تتكامل فيها العبادات جميعها بمعناها ومحتواها، ولفَتَ الأنظار أوّلًا إلى الجوهر الذي يجعل من الصلاة صلاةً ورأسًا للعبادات، فإن الصلاة معراج المؤمن، وهي ذاتُها ضياؤُه في طريق معراجه، وهي بُراقُه، ووسيلةُ القلوب المؤمنة السالكة الطريق، فهي السفينة والمكّوك والطائرة… وهي واحدةٌ من أهمّ مراحل النُّزُلِ والاستراحة على طريق المسافر إلى القربى والوصال -الاقتراب من الله والوصول إليه-، وهي سدرةُ المنتهى، ومن أعظم الوسائل المتاخمة حدودُها الغايةَ والهدفَ المنشود.
إن كُولَنْ يهتمّ بـ”الصوم” و”الزكاة” على قدر مكانتيهما في البناء الإسلاميّ ويلفت الانتباه إليهما دائمًا كما يفعل بالنسبة للصلاة، وما كتبه بخصوص “الحجّ” من كتاباتٍ جديرٌ بالقراءة والمطالعة بكلّ تأكيدٍ .
ويرى فتح الله كُولَنْ الإسلامَ دِينًا، ومنظومةً تتكوّن من الإيمان والعبادة والأخلاق والسلوكيّات بالدرجة الأولى، ويقول بشأن “الدعاء” إنه:
“نداءٌ وتضرُّعٌ، وتوجُّهٌ من الصغير إلى الكبير، ومن الأسفل إلى الأعلى، ولهفةٌ من الأرض ومن سكّانها نحو ما وراء السماوات، وطلبٌ ورغبةٌ وطرحٌ لما في الصدور من آلام، والداعي يشعر بضالّته أوّلًا، وبعظمة صاحب الباب الذي يتوجّه إليه ثانيًا، لذا يكون متواضعًا جدًّا، وعندما يرفع يديه بالدعاء مؤمنًا بالاستجابة؛ يتحوّل ومن حوله إلى عالَمٍ روحانيٍّ وسماويٍّ، وكأنه يسمع تسبيحات الروحانيّين وأذكارهم وأدعيتهم، والمؤمن بهذا التوجّه وبهذا الدعاء لا يطلب ما يودّه وما يطمح إليه فقط، بل يستغيث أيضًا ممّا يخافه ويخشاه، وهو يعلم بأن الدعاء حصنه الحصين الذي يلجأ إليه” .
يبيّن كُولَنْ أن الدعاء يعني قبل كلّ شيء تعظيمَ الله والثقةَ بأنّه قادرٌ على كلِّ شيءٍ، وأنه سبحانه يستطيع أن يجعل كلَّ ما يبدو لنا مستحيلًا أمرًا ممكنًا، فنحن نعبّر في الدعاء عن حالنا الرثّ كما يقول الشاعر:
أيًّا كان حالُنا فهو لا يخفى عليك،
فما الدعاء إلا بيانٌ متواضعٌ لحال عبادك الضارعين إليك…
إن الدعاء يقدّم ما نطلبه إلى الحقّ، ويشرح عالمنا الروحيّ متوجّهًا به إلى بابه تعالى الذي هو محرابُنا الأبديّ، فنبوح إليه بما في داخلنا، ونُحكِم غلقَ أفواهنا “تأدُّبًا في حضرته”، وننتظر صامتين، ويعتبر هذه الحال بالنسبة للبعض عرضَ حال أبلغَ بكثيرٍ من أبلغِ الكلمات -بقدر درجة الإخلاص والصدق- وبيانًا يتجاوز أسمى العبارات، ولما كان الله تعالى يعلم حالنا كلّه؛ سرَّنا وجهرَنا كان الجوهر أهمَّ مما يُنطقُ في الدعاء من كلماتٍ.
ويرى فتح الله كُولَنْ أن الدعاء عبادةٌ تحتوي معنى العبودية، تمارَس قولًا وفعلًا، والدعاء الفعليُّ هو الوفاء بما يلزم الوفاء به من أجل الوصول إلى النتيجة المرجوّة، ولما كانت الدنيا دار حكمةٍ وأسبابٍ؛ كان حرثُ الفلّاح الحقلَ في موعده وزرعُه الأرض، واستخدامُ المريض الدواء على سبيل المثال دعاءً فعليًّا، هذا النوع من الأدعية يُقبل بصفةٍ عامّةٍ، ما لم يُردِ الله تعالى شيئًا آخر؛ كأن يعاقبَ الفلّاحَ بألا يعطيه ثمرة ما زرعه لخطإٍ ارتكبه، أو أن يريدَ أن يمتحنه بشكلٍ ما ولحكمةٍ ما، أو لأن موعد وفاة المريض بسبب ذلك المرض لم يَحِنْ بعدُ، أو أنه ليس خيرًا له أكثر من معاناته المرض على سبيل المثال، حتى إن حرثَ الحقل وبذرَ الحبوب، والذهابَ إلى طبيبٍ خبيرٍ واستخدامَ العلاج، أي التوجّه إلى الله بالدعاء الفعلي بكلّ هذه الأشياء؛ لا يمنع من التضرّع شفهيًّا وقوليًّا في الاتّجاه نفسه، بل على العكس تمامًا؛ لا بدّ وأن يتّحد الدعاء الفعليّ والدعاء القوليّ ويتوافقا.
وقد لا يمنح الحقُّ تعالى عبدَه ما أراده في الدعاء القوليّ، فإن دعا العبد دعاءً يراعي فيه الإخلاصَ والشروطَ اللازمةَ لذلك؛ فإن كان الأمر خيرًا له على هذا النحو أعطاه الحق تعالى ما أراد وطلب تمامًا، وإن كان منحُهُ ما أراد بالضبط لا يحمل خيرًا بالنسبة له منحه الله ما هو خيرٌ له أو لا يمنحه قطّ، ويدّخر له إجابة دعائه، ليمنحه مكافأةً وثوابًا عظيمًا في الآخرة، ويمكننا تشبيه هذا بحال مريض، فمثلًا ربما يحتاج مريضٌ أصابه البرد أن يشرب الماء؛ إلا أنه إن كان هذا الماء سيزيد من مرضه كان الوفاء بطلبه هذا ضارًّا له، ومثل هذا أيضًا، فإن الحق تعالى يعطي عبده ما يصلح له بصفةٍ عامّةٍ؛ فلا يعطيه كلّ ما يطلبه دائمًا، ويقول فتح الله كُولَنْ في هذا الصدد:
“ليس من الصحيح توقّع الاستجابة لكلّ أدعيتنا كما هي”.
ويواصل شرحه لذلك فيقول:
“لأننا لا نأخذ بعين الاعتبار إلا رغباتنا وطلباتنا المتعلّقة بأيّامنا الحاليّة، فنضيّق بهذا إطارَ طلباتنا، وننسى أو نُهمل المستقبل أو الأمور الأخرى المتعلّقة بنا عن قربٍ، ولا نأخذها بعين الاعتبار، ولكنه تعالى يرى حالنا الحاضر، وكذلك مستقبلَنا القريب والبعيد في اللحظة نفسِها، فيوسّع ما ضيّقناه حتى يجعل أدعيتَنا تتّسع وتشمل الدارين -الدنيا والآخرة- ويستجيب لها ضمن أبعادٍ متعدّدةٍ حسب موجبات رحمته وحكمته. أجل!.. فهو عندما يُنير أوضاعنا الحاليّة لا يفسد مستقبلنا، ولا يحوّل أضواء أيّامنا الحاليّة إلى ظلماتٍ في المستقبل، وعندما يقوم بالإنعام علينا لا يَسحب من الآخرين نِعَمَهُ ولا يحرمُهم من فضله، بل يستجيب لنا وللآخرين ليظهر لنا أنه سمع أدعيتنا، وأخذ طلباتنا بعين الاعتبار، فيهب قلوبَنا بقربه وحضوره انشراحًا وبهجةً وراء كلِّ خيالٍ وتصوُّر”.
ويربط فتح الله كُولَنْ المراحل الذهبيّةَ في التاريخ التركيّ بسموّ الروح وعشق الأخلاق، ويعتبر هذين العنصرين أساسَ كلِّ صنوف الانبعاث الحقيقيّ، ويبين أن التطفّل والانسياق وراء المادّيّة طَرَحَ الإنسانَ أرضًا من فوق عرش أشرف المخلوقات، وقَلَبَ القِيَمَ الإنسانيّة كلّها رأسًا على عَقِبٍ.
ويؤمن كُولَنْ بأن الإسلام قد فضّلَ الإنسانَ بإيمانه ومعرفته ومحبّته وعشقه وأذواقه الروحانيّة حتى على الملائكة، واعتبرَ محبّته تعبيرًا مهمًّا عن العلاقة والصلة بالخالق، ومن هذه الناحية فإنه لا بدّ من أن تُعاد إلى الإنسان من جديد جميعُ تلك القيم التي سُلبت منه بواسطة المادّيّة، وتأتي في مقدّمتها الفضائل الأخلاقيّة مثل الإيمان والعشق والإخلاص والصدق والأمن ونصرة الحقّ والثبات على الوعد والشجاعة واحترام الآخرين والارتباط بالمعنويّات .
والأخلاق في رأي كُولَنْ تحتوي قسمًا من الدساتير العليا المتعلّقة بسلوكيّات الإنسان، تنبع جميعها من سموّ الروح، ولذا فإن الذين عجزوا عن التواؤم مع أرواحهم غالبًا ما يصعُب عليهم الاستمرار في تطبيق المبادئ الأخلاقيّة.
ويؤمن كُولَنْ كذلك بأن الأخلاق هي ما يمنح العلمَ قيمتَه، فيقول:
“هناك فرقٌ بين أن تكون عالِمًا وبين أن تكون إنسانًا حقًّا، فبنسبة استعمال “العالِم” لعلمه في خدمة الإنسانيّة، وبنسبة تمثيله لعلمه بخُلُقِهِ وفضيلتِه؛ يتخلّص من كونه مجرّد حمّالِ عِلْمٍ ويرقى إلى مستوى الإنسان الفاضل، وإلَّا فهو شخصٌ مسكينٌ أضاع عمرَه فيما لا ينفع، إذ الأخلاق والفضيلة هي التي تُحوِّل الجهل الذي يُشبه معدنًا عاديًّا -كالحديد- إلى معدنٍ ثمينٍ ومفيدٍ كالذهب”.
ومن ثم ينصح كُولَنْ قائلًا:
“إيّاك أن تخدع أحدًا حتى وإن تعرضْتَ أنت للخداع، وإن كان الوفاء والاستقامة تجلبان في بعض الأحيان مصاعب وخسائر لصاحبهما، إلَّا أنهما خصلتان ساميتان إيّاك أن تبتعد عنهما” .
ويركز فتح الله كُولَنْ على القواعد التي ترفع مرتبة الإنسان من مجرّد كونه إنسانًا في الصورة إلى مرتبة الإنسان الحقّ أي الإنسان الكامل على نحوٍ مختلفٍ جدًّا عن أفكار الأخلاق الحديثة والمبادئ العصريّة مثل الأخلاق العلمانيّة والأخلاق الشيوعية والأخلاق الاجتماعيّة والاشتراكيّة، ويؤكّد على أنّ أصل هذه القواعد موجودٌ في الدين، وهو ذلك المفهوم الأخلاقيّ الذي لا يوجد فيه “الآخر” كما هو الحال في المفاهيم الأخلاقيّة الحديثة، بل فيه الأخوّةُ، والأكثر من ذلك أن “الآخر” في تلك الجماعة الإنسانية التي وُصِفَت بـ﴿بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ في القرآن الكريم وبــ “البُنْيَان” و”الجَسَد” في الحديث النبويّ الشريف ؛ هو “الأنا” ذاته، فقول النبيّ : “لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ” يُشير إلى ما يجب أن يكون عليه الجميع، والآية الكريمة: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (سورة الْحَشْرِ: 59/9) تُصرّح بصفة المؤمن الحقّ، وهذه الصفة هي التي تشكّل أساس المفهوم الأخلاقيّ لدى كُولَنْ.
ويُجلُّ كُولَنْ روح الإيثار هذه دائمًا ويُعلي من شأنها بمثل هذه العبارات فيقول:
“تضحية الإنسان بمصالحه ومنافعه من أجل مصلحة الآخرين ومنفعتهم سموٌّ في الروح وشهامةُ خلُق، والذين يفعلون الخير على الدوام دون انتظار أيِّ أمرٍ أو منفعةٍ سيذهلون عندما يلتقون وجهًا لوجهٍ مع كلّ فعلٍ خَيِّرٍ أو نيّةٍ صالحةٍ في موقفٍ لم يكونوا يتوقّعونه أبدًا، وعنده تنعقد ألسنتُهم فلا يعرفون كيف يشكرون” .
ومن ثمَّ فإننا نرى في عبارته الآتية أيضًا مبدأ “العيش لأجل الآخرين لا لأجل النفس”، و”إيثارُ الإنسانِ حياةَ الآخرين على حياتِهِ نفسه”، وهو المبدأ الذي يُمثّل واحدًا من أهمّ المبادئ في التعرُّف على فتح الله كُولَنْ؛ إذ يقول:
“كما أنّ الشجرة تنمو وتترعرع بنسبة سلامة جذورها فإن الإنسان أيضًا ينمو ويتطوّر طالما تخلّص من التفكير في المنفعة الشخصيّة والأنانيّة، وعاش من أجل الآخرين، فيسمو ويرتفع إلى أن يصل عنانَ السماء” .
ويذكر فتح الله كُولَنْ أنّ من أهمّ المبادئ الأخلاقيّة أن يشكر الإنسان ربّه على كلّ النِّعَمِ التي وهبها له؛ أن يقدّم شكرَها من جنسِها، وطالما ظلّت مشاعر الشكر هذه مُتّقِدَةً حيّةً استطاع المجتمع أن يبقى ويعيش على مستوى الفرد والأسرة والجماعة والدولة، وليس مهمًّا شكلُ تلك النعمة، فكما يمكن أن يُنعِم الله على هذا بالهناءة والهدوء والأمن والرفاهية، يمكن أن تتحقّق النعمة أيضًا في تطوُّرٍ نحو الأفضل في المجال التقنيّ؛ فالمال والمنال والمنصب والموقع والعلم والعرفان والجياش بأحاسيس ومشاعر الفيوضات المادّيّة أو المعنويّة؛ كُلٌّ منها نعمة بالنسبة للإنسان، وإن وفّى الفرد أو المجتمعات بما يجب عليهم الوفاء به من الشكر، وقاموا بمسؤوليّاتهم فهذا يعني أنهم لا يزالون جديرين بتلك النعم لائقين بها، ولا يتعرّضون لأيّ تغييرٍ، وإلا فإن النتيجة ستكون عكسيّةً سلبيّةً إذا ما كان الأمر خلاف ذلك .
والحسُّ والفكر وسلامة الشخصيّة التي هي الأعماق الإنسانيّة الحقيقيّة بالنسبة لفتح الله كُولَنْ تمثّل في رأيه بطاقةً ائتمانيّةً تسري في كلّ مكان، فهو يرى أنه كما أنّ تقدير الحقّ تعالى ومكافأته لعبده تكون بحسب الصفات المتوفّرة فيه؛ فإن حسن قبول البشر لبعضهم البعض أيضًا مرتبطٌ بالصفات بمقياسٍ معيّنٍ .
ويسرد كُولَنْ الآراء الآتية أيضًا فيما يتعلّق بموضوع الفضيلة فيقول:
الفضيلة هي الحالة الروحيّة التي لا تهتمّ بجلب احترام الآخرين مع أنها عملت عملًا يستحقّ الاحترام، أما الغرور والعُجبُ بالذات فهو الحالة النفسيّة التي تتوقّع احترام الآخرين ومديحهم لعملٍ لا يستحقّ الاحترام.
الذين يذكرون العظماء الحقيقيّين بالخير والاحترام، سَيُذكَرونَ بالخير يومًا ما.
معرفةُ النفس بصيرةٌ، أما حبُّ النفس فعَمَى، والذي يعرف نفسه قريبٌ من الله ومن الناس، أما الأنانيُّ المُحبُّ لنفسه فبعيدٌ عن الكلّ باستثناء نفسه .
الفضيلةُ تجلس على بساطٍ بسيطٍ بين الناس، أما الغرورُ فلا يكفيه أفخم الكراسي، فإن شبّهْنا الغرور ببئرٍ معكوسةٍ كالقبّة، نستطيع تشبيه الفضيلة بسماءٍ هبطت نحو الأفق.
الجهل يؤدّي إلى الغرور، والحكمة تؤدّي إلى الفضيلة، الغرور لقيطٌ غير شرعيٍّ للجهل، أما الفضيلة فابنٌ شرعيٌّ للحكمة، الغرور نصيرٌ للاستبداد أما الفضيلة فنصيرةٌ للحرّيّة وللمساواة.
يتجوّل الغرور في وحدةٍ قاتلةٍ باحثًا عن الأنداد والأمثال… أما الفضيلة فهي بين الشعب في غمرة السعادة لأنها وجدت أمثالها وأندادها .
د. العلاقاتوالمعاملاتبينالناس
يهتمّ فتح الله كُولَنْ بالمحبّة والتسامح والمروءة والإيثار بين الناس اهتمامًا شديدًا، ويقول:
“إنه يجب على الإنسان أن يجعل من نفسه ميزانًا يزنُ به كلَّ شيءٍ في سلوكه تجاه الآخرين، فما يريده لنفسه عليه أن يريده للآخرين، وعليه ألاّ ينسى أنه عندما يكره تصرّفًا معيّنًا تجاهه فإن الآخرين أيضًا يكرهونه؛ فيتخلّص بذلك من جميع التصرّفات الخاطئة من جهة، ويسلم من إيذاء الآخرين وجرح قلوبهم من جهةٍ أخرى” .
مسجّلًا بذلك ضرورة أن يتحرّى الإنسان فعل الخير للآخرين دائمًا، ووفقًا لـلأستاذ كُولَنْ الذي يوصي قائلًا:
“لا تعتَبْ على أحدٍ مُتذرِّعًا بأنه: لم يمدّ يد المساعدة للإنسانيّة… بل تذكّر كم ضيّعتَ أنت من فُرَصِ مساعدة الآخرين” فإنَّ كمالَ الإنسان ونضوجه لا يظهر إلّا عندما لا ينحرف عن طريق الحقّ حتى بالنسبة للأشخاص الذين أساؤوا إليه، بل لا يتردّد في إسداء الخير إليهم… ذلك لأن القيام بالإساءة سلوكٌ غيرُ إنسانيّ، ومقابلة الإساءة بالإساءة نقصٌ خطيرٌ في الإنسان، أما مقابلة الإساءة بالإحسان، ومقابلة الشر بالخير فعلامةٌ من علامات السموّ والشهامة .
ويرى كُولَنْ أن الإنسان الناضج والكامل هو الذي يعتبِرُ أكبرَ معروفٍ يُسديه للآخرين شيئًا ضئيلًا، وأصغر معروفٍ يُسدَى إليه شيئًا كبيرًا، ومثل هذا الشخص يكون قد سما إلى الخُلُق الإلهيّ ووصل إلى الاطمئنان القلبيّ، كما يذكر كُولَنْ:
“أنّ غَضَّ الطرف عن تصرفات البشر غير اللائقة وتجاهلَ عيوبِهم واحدةٌ من بين أهمّ الخصال الإنسانيّة…
إنّ البحث عن أخطاء الآخرين وتقصيراتهم وعيوبهم شيءٌ خارج عن نطاق الأدب، أما إشاعة هذه العيوب والتحدّث عنها هنا وهناك فنقيصةٌ لا يمكن الصفح عنها، أما ذكر هذه العيوب وتعدادها لأصحابها فضربةٌ قاصمةٌ للإخاء وللمودّة التي تربط بين الأفراد” .
يذهب فتح الله كُولَنْ إلى أكثر من ذلك واضعًا بذلك معياره الشخصيّ الأصيل في هذا الموضوع فيقول:
“ليست هناك نهايةٌ أو حدودٌ في إسداء المعروف إلى الآخرين، فالإنسان الشهم قد يضحّي حتى بروحه من أجل الآخرين” .
والمراعاة الدقيقة للحلال والحرام، والمسار الحقوقيّ على نحوٍ متبادَلٍ في الحياة اليوميّة وفي علاقات الناس ببعضهم مِنْ أكثرِ الأمور التي اهتمّ بها فتح الله كُولَنْ اهتمامًا شديدًا بالنسبة للإسلام بَعدَ المبادئ الأخلاقيّة التي ركّز عليها آنفًا بحساسيّةٍ فيما يخصّ العلاقات بين الناس، وفتح الله كولن الذي يُذكّرُ باستمرارٍ قائلًا:
“إنما الدِّين المعاملة، مراعاة الحلال والحرام”.
فهو حسّاسٌ لأقصى درجةٍ فيما يخصُّ حقوق العباد، وقد استدان فتح الله كُولَنْ في صِغره حين كان يَدْرس في “أَرْضُرُومْ” قدرًا قليلًا من المال من معماريّ أتى “أرضروم” مآذن من محافظة “قَيصرِي (Kayseri)”، وقد غادر المعماريُّ “أَرْضُرُوم” قبل أن يتسنّى لفتح الله كُولَنْ سداد دَينه له، فراح يبحث عنه عدّة سنواتٍ مدينةً مدينةً حتى وجده في النهاية، فسدّد له دَيْنه تامًّا غير منقوصٍ، وقدّم له هدايا قيّمةً إلى أن أرضاه، وطلب منه السماح، وكما أنه حسّاسٌ ودقيقٌ في هذا الموضوع فإنه يوصي الجميع كذلك بأن يكونوا بهذا القدر من الحساسية والتحرّي، ويرى أن الإنسان إن كان يتحدّث عن حقوق العباد، ولا يفي بدَينه رغم قدرته على الوفاء به، ولا بالحقوق الواجبة عليه فهو كذّابٌ ليس إلّا، ويقول:
“الإنسان المَدين لغيره بحقٍّ مطالبٌ بأن يجد ذلك الشخص ويطلبَ منه السماح والصفح، فإن كان هذا الحقُّ حقًّا معنويًّا كالغيبة والافتراء والكذب عليه استحال السماح فيه إلا بالاستسماح منه، فإن كان من قبيل الدَّين والمال فلا بدّ من الهرع إلى تسديده على الفور دون إبطاءٍ” .
ويركِّز الأستاذ فتح الله أكثر ما يركّز في موضوع حقوق العباد على حقّ الوالدين، فيرى أن حقوق الوالدين واحدةٌ من أكثر القضايا التي تعرّضت -مع الأسف- للإهمال بين المسلمين في يومنا الحاضر، في حين أن الوالدين شخصان مقدّسان ينبغي للإنسان أن يحترمهما، ومن يقصّر في احترامهما يُعتبر عاصيًا للحقّ تعالى، ومن يؤذيهما فلا ريبَ أنه يتعرّض للإيذاء عاجلًا أو آجلًا، فالإنسان ينمو ويكبر على أكتاف والديه وهو عبءٌ عليهما منذ اليوم الأوّل لوجودهِ كمخلوقٍ حيٍّ صغيرٍ، وليس في الإمكان هنا تعيين عمق شفقة الوالدين ورحمتهما، ولا حدودِ الأعباء التي يتحملانها، لذا فاحترامُهما وتقديرُهما واجبٌ من جهةٍ، ودَينٌ إنسانيٌّ من جهةٍ أخرى، ويتناول القرآن حقّ الوالدين وحقّ الله تعالى في الخطّ ذاته .
ويقول فتح الله كُولَنْ:
“إنني أتلوّى ألمًا وحسرةً كلّما رأيتُ إهمال حقوق الوالدين.
إن الذين يعرفون قدر الوالدين، ويعدّونهما وسيلةً للوصول إلى الرحمة الإلهيّة هم المحظوظون هنا في الدنيا، وهناك في الآخرة، أما الذين يستثقلون وجودَهما ويملّون من استمرارهما في الحياة معهم؛ فهم التعساء والمرشّحون لأرذل وأسوإِ حياةٍ، وبدرجة توقير الإنسان لوالديه يكون موقِّرًا لخالقه تعالى، ومن لا يوقّرهما لا يوقّر الله تعالى” .
وعلى حين يقف فتح الله كُولَنْ عند هذا الميزان فيما يتعلّق بحقّ الوالدين فإنه لا يُهمل حقوق الطفل، ويقول :
عندما خُلِقَ الإنسان خُلِقَ معه أليفه ورفيق حياته، ولم يبقَ وحده إلا مدّةً قصيرةً، لذا فإن خلقه مع زوجه يدلّ على أن الزواجَ شيءٌ فطريٌّ للإنسان، وأهمّ هدفٍ لهذه الوظيفة الفطريّة هو التناسل.
وكلّما قام الآباء والأمّهات بتزيينِ أبنائهم بالفضيلة أكثر؛ حُقَّ لهم أن يُطلِقوا عليهم لفظَ “أبنائنا”، لذا فليس من الملائم للآباء والأمّهات الذين يُهملون تربية أبنائهم أن يدّعوا مثل هذا الادعاء، فما بالكم بالآباء الذين يدفعون أبناءهم إلى طريق الشرّ والرذيلة ويُبعِدونهم عن المستوى اللائق بالإنسان!
إن قام الآباء والأمهات بواجبهم على أتمّ وجهٍ نحو أبنائهم وربّوهم تربيةً صالحةً تجعلهم نافعين لأنفسهم ولمجتمعهم؛ فإن الأمّة تكون قد ملكت ركنًا ركينًا مهمًّا، أما إن كان العكس -أي أهملوا تهذيبَ المشاعر الإنسانيّة لدى الأولاد- فكأنهم يبثُّون في المجتمع حشراتٍ ضارّةً.
إننا لنرى عندما تُقلّم الأشجار، وتُرعى الحيوانات رعايةً صحيحةً كيف نحصل على ثمرة هذا الاهتمام، وكيف يستمرّ نسل تلك الشجرة وذلك الحيوان، ولكن عندما تُترك الأشجار أو الحيوانات دون رعايةٍ واهتمام لا نستطيع الاستفادة منها بالشكل المرجوّ والمطلوب، أفلا يستحقّ الإنسان المرسل إلى الدنيا بكمٍّ هائلٍ من القابليّات والاستعداداتِ أن يكون له نصيبٌ من الاهتمامِ والرعايةِ التي نُبديها ونبذُلُها لشجرة؟
يا ابن آدم! أنت مَن تنجب الطفل، لذا تقع عليك مسؤوليّة الارتقاء بهذا الطفل إلى ما وراء السماوات، فكما تهتمّ بصحّة جسمه وتشفقُ عليه من المرض، اهتمّ بحياة قلبِهِ وبروحِهِ وأَشفقْ على ذلك المسكين من النار وأنقذه بحقّ الله، ولا تدعه يخسر الدنيا والآخـرة .
مقارنة رؤية فتح الله كُولَنْ حول الإسلام بالرؤية الأيديولجية للإسلام
أ. الإيمان
يحتلّ الإيمان دائمًا المكان الأوّل في رؤية فتح الله كُولَنْ الإسلاميّة؛ لأنه وفقًا لتقييمات بديع الزمان:
“الإيمان لا ينحصر في تصديق إجماليّ وتقليديّ فقط، بل له انجلاء ومراتب كثيرة جدًّا كالمراتب الموجودة بين البذرة النامية إلى الشجرة الباسقة أو كالمراتب الموجودة بين انعكاس ضوء الشمس من المرآة الصغيرة في اليد إلى انعكاسه من سطح البحر بل إلى انعكاسه من الشمس نفسها، فإن للإيمان حقائق غزيرة جدًّا إذ ترتبط حقائقُ كثيرةٌ لأنوارِ ألف اسم واسم من الأسماء الحسنى، ولسائر أركان الإيمان بحقائق الكون…
إن أجلّ العلوم قاطبةً وقمّة المعرفة وذروة الكمال الإنسانيّ إنما هو في الايمان والمعرفة القدسيّة السامية المفصلة والمبرهنة النابعة من الإيمان التحقيقي… نعم، إن الإيمان التقليديّ معرّضٌ لهجمات الشبهات والأوهام، أما الإيمان التحقيقيُّ فهو أوسع منه وأقوى وأمتن وله مراتب كثيرةٌ جدًّا… ومنها مرتبة “عين اليقين” التي يستطيع الواصلون إليها بلوغَ درجةٍ ومرتبةٍ يتمكّنون عندها من مطالعة الكون كلّه كما يطالعون كتابًا، وهناك مرتبةٌ أخرى من مراتب الإيمان هي “حقّ اليقين”، ومن يمتلك هذه المرتبة العالية من الإيمان فإنّه يُحصّن نفسه ويكفل سلامته من جيوش الشبهات المعتدية .
ب. مقارنةبينالرؤيةالعلميّةوالمعنويّة،والرؤيةالسياسيّةالأيديولوجيّة
لقد نظر فتح الله كُولَنْ -كما حاولنا الوقوف عليه سابقًا- إلى الإسلام على أنه دِينٌ يُخاطب القلب والروح والذهن ويوجّه التصرّفات والسلوكيات بالدرجة الأولى، أساسه الإيمان والعبادة والأخلاق والمعاملة.
في حين أن حركات الإسلام السياسي الأيديولوجية، مع اهتمامها بالإيمان والعبادة والأخلاق والسلوك، إلا أنها نظرت إلى تراجع المسلمين في القرون الأخيرة في المجال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بشكلٍ عامّ، ثمّ بحثَتْ ودرسَتْ أسباب الانهيار في هذه المجالات وظنّت أن الانبعاث من جديدٍ سيكون في هذه المجالات أيضًا، وبالتالي فقد نَظَرَتْ إلى الإسلام على أنه أيديولوجيّةٌ ونظامٌ سياسيٌّ اقتصاديٌّ اجتماعيٌّ قبل أيّ شيء، مع قبولها أُسُسَه الأخرى دون أدنى شكّ.
في حين أن تراجع المسلمين في القرون الثلاثة الأخيرة إنما ينبع في المرتبة الأولى -في رأي فتح الله كُولَنْ- من التدنّي الروحيّ والاختلال الخطير في الاعتقاد والعبادة والأخلاق، ويقول:
“إن مشكلتَنا الأساسيّة ليست هي انهيار الامبراطوريّة، وإنما هي إفلاسُنا روحيًّا، وكم هو مؤلمٌ أن من يُديرون الدولة لم ولا يستطيعون فهم هذا بأيِّ شكلٍ من الأشكال”.
وبينما هو يُحلّل تلك النقطة راح يقول أيضًا:
“مهما تزينت وتحلّت بمئات أقواس النصر وتماثيل التنّين كلُّ زاويةٍ من زوايا بلدٍ أفلس روحيًّا فلا فرق بينه وبين المقبرة، أجل، إن العالَم الذي لم يقم على أنفاس انتصار الروح هو دميةٌ في يد قوّةٍ غاشمةٍ، وإنّ ثقافةً لم تتكوّن في مناخ الروح والفضائل لهي عجوزٌ شمطاءُ تقطع على الإنسانية طريقَها، وأما الحشود التي تعيش في بلدٍ كهذا؛ فهي مجموعاتٌ من التعساء معصوبةُ الأعين تنجرف من أزمةٍ إلى أخرى.
والإنسان القويّ المظفّر هو من يهزم نفسَه، أما الأرواح الدنيئة التي عجزت أن تتخلّص من أسر النفس والرغبات الشرّيرة فإنها تُعتبر منهزمةً مغلوبةً حتى وإن تمكّنت من فتح العالَم، وكما أنه تستحيل تسمية استيلاء أمثال هؤلاء على العالَم من أقصاه إلى أقصاه فتحًا، فإنه يستحيل عليهم أن يُعَمّروا زمنًا طويلًا فيما سيطروا عليه من الأماكن…
وقد انهزم “مَرْزِيفُونْلُو (Merzifonlu)” في داخله أوّلًا قبل هزيمته في “فيينّا”…
وانهزم “يلدريم بايزيد” ليس في واحة “جُوبُوكْ (Çubuk)” وإنما في ذلك اليوم الذي استحقر فيه خصمه واعتبر نفسه حاكم الأرض الأوحد…
وكم من كثيرٍ مثلهم!… بينما حلّقَ “طارق بن زيادٍ” بروحه عاليًا ليس عندما اجتاز أعمدة “هرقل” وهَزَمَ بثُلّةٍ من الفدائيين الجيشَ الإسبانيَّ المكوّن من تسعين ألف مقاتل، وإنما في تلك اللحظة التي جاش فيها وقال أمام خزائن وثروات الملك في “طليطلة”:
“حذارِ يا طارق! كنتَ عبدًا بالأمس، وأنت الآن قائدٌ مظفّرٌ، وغدًا تحت التراب تثوي!”
وانتصر “يَاوُوزْ (سليم الأول)” الذي كان يرى العالَم لا يتّسع لحاكمَين ليس عندما زلزل العَالَمَ بجيشه، يُبقي على بعض الملوك ويقضي على آخرين، وإنما حينما تَحَيَّنَ ساعةَ نوم شعبه عند دخوله إسطنبول حاملًا لقب “حاكم العالم الإسلامي الأوحد” عقب انتصاره في معركة “الريدانية” متجنّبًا أن يصيبه الغرورُ من رؤيته حفاوة شعبه به، لقد كان فاتحًا حقيقيًّا حين وصل إلى عاصمته في سكون الليل، وأوصى بأن يُدثر نعشه بجبّته التي تعطّرت بوحلٍ تناثر عليها من قدم حصان أستاذِهِ ، “.
ولا يُركَّزُ طويلًا على طُرز المعيشة الإسلامية الشخصيّة للأفراد في الرؤى الأيديولوجية السياسية نظرًا لتباين نقطة الانطلاق الرئيسة هذه وتمايزها في كلِّ واحدة منها عن الأخرى؛ فعلى حين أن تحريك الناس وتنشيطهم يتصدّر الفهم الأيديولوجيّ فإن فتح الله كُولَنْ يتحرّك في اتّجاهٍ مختلفٍ، ومن ذلك مثلًا تلك العبارات الآتية التي تكفينا كي نفهم نقطة انطلاقه ورؤيته من زاويةٍ ما:
“ينبغي للذين يحاولون أن يُصلِحوا العالَم إصلاحُ أنفسهم أوّلًا. أجل، عليهم أن يُطهّروا قلوبهم أوّلًا من الغلّ والحقد والحسد إلى جانب استقامتهم في السلوك وفي التصرّف وبعدهم عمّا لا يليق بهم، أما من لم يسيطر بعد على عالم قلبه ولم يُعلن الحرب على نفسه الأمّارة، ولم يفتح عالم أحاسيسه المعنويّة والداخليّة… مثل هؤلاء وإن تكلّموا بمعسول الكلام، وإن كانوا في قمّة البلاغة فإنهم لن يستطيعوا إثارة القلوب والأرواح ولو استطاعوا ذلك فلن يستطيعوا هذا طويلًا” .
إن هذا الموضوع مهمٌّ جدًّا، فإلى جانب أن الإسلام دينٌ لم يطغَ الجانبُ الدنيويُّ فيه ولم يغلِبْ عليه مع مرور الزمان كما هو الحال بالنسبة لليهوديّة، وإنه -أي الإسلام- كذلك ليس دينًا سادت فيه الجوانب الروحيّة فقط ولم تمثّله مؤسّسةٌ كالكنيسة كما هو الحال في المسيحيّة، وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (سورة الأَنْفَالِ: 8/24).
يعني أن الإسلام جاء ليكون حياةً للحياة، غير أن الأصل في كونه “حياة للحياة” هو أسسه الإيمانية، وفي مقدّمتها الإيمان بوجود الله، ووحدانيّته المطلقة اللانهائيّة التي تقوم على أُسُسٍ أخرى أيضًا، ويتناول الإمام الغزاليّ في مؤلّفه: “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة” ، أُسُسَ الإيمان بالإسلام في ثلاث فئات في الأساس هي: “الإيمان بالله” و”الإيمان باليوم الآخر” و”الإيمان بالنبوة” وأما الإيمان بالكتب السابقة فيُدرَس في نطاق الإيمانِ بالنبوّةِ، وأما الإيمان بالقدر -بحيث يشمل إرادة الإنسان ولا ينفيها- فيُدرسُ في إطار الإيمان بالله، والإيمانُ بالملائكة يُدرَسُ ضمنَ الإيمان بالنبوّة والإيمانِ بالله أيضًا، ويرتّب بديعُ الزمان مقاصدَ القرآن الرئيسةَ، ومِنْ ثمَّ أسسَ الإسلام هكذا :”التوحيد، والآخرة، والنبوّة، والعبادة أو العدالة” . تلك هي أسس الإسلام وتذكر على أنها “الأصول”، وقد كانت هذه الأسسُ الأربعة أساسَ رسالات الأنبياء جميعهم -دون استثناء- وانطلاقًا من هذا بُنيت العبادات كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ على هذه الأسس الأربعة، ثمّ مع كلّ هذا تأتي الدساتير الأخلاقيّة الأساسيّة ودساتير الحلال والحرام فتأمرُ مثلًا ببرّ الوالدين، والوفاء بحقوق الأقارب والمساكين والمعوزين وأبناء السبيل، وعدم التبذير والإسراف والبخل كذلك، وعدم وأد البنات والبعد عن كلّ أنواع القتل وتجنّب الزنا وعدم شرب الخمر وعدم الانخراط في القمار وعدم اغتصاب مال أحدٍ، وتأمرُ أيضًا بالوفاء بالعهد وعدم الكذب وعدم خيانة الأمانة والمحافظة على الصدق ومراعاته دائمًا في كلّ العلاقات، والتخلّي عن كلّ أنواع الأخلاق والصفات السيّئة كالحقد والحسد والغيبة والنميمة، وعدم التحايل والغشّ في الميزان أبدًا، وعدم التحدّث فيما لا علم به، وعدم التبختر والتكبّر، والأمر بإحسان القول، والقرآن الكريم يمتدح المؤمنين حين يمتدحهم على أساس هذه الخصال والصفات .
ولا مراءَ في أن الإسلام دِينٌ يعايش الحياة ويحيط بها، وله أبعادُه الاجتماعيّة والاقتصاديّة والإدارية بكلّ تأكيدٍ، علاوةً على ذلك فقد صار حضارة عظيمةً ودينًا لكثير من الدُوَل طوال أربعةَ عشر قرنًا، ولا سيما أن رسالة سيدنا رسول الله مع أنها سادت الحياة كلّها سيادةً تامّةً في العصر المدنيّ وفي عصور الخلفاء الأربعة الأُوَلِ إلا أن عمليّة توزيعٍ للمهام والوظائف والمسؤوليّات حدثت مؤخّرًا؛ فقد تحمّل العلماء والمتخصّصون في العلوم الطبيعيّة وظيفةَ تعليم البشر القرآن الكريم وآياته المعجزة، بينما تحمّلت التيارات المعنوية تعليمهما قلبيًّا، وهي من وظائف سيدنا رسول الله استنادًا إلى قول الله سبحانه: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (سورة البقرة، 2/151)، وفي هذا الإطار نرى أنَّ العلماء والأولياء والمرشدين الحقيقيين قد نذروا أنفسهم بشكلٍ أكبر للعلم وإرشاد الحكّام وتنبيههم ونصحهم من أجل سلامة العالم الإسلامي وسعادة المسلمين، ويلفت بديع الزمان الانتباه إلى هذا الأمر، ويوردُ بالشرح الآتي المهمّ إلى حدٍّ بعيدٍ لإيضاح السبب في خروج الخلافة عن أهل البيت وعدم بقائها فيهم؛ فيقول:
“إن سلطنة الدنيا خدّاعة، وإنّ أهل البيت مكلّفون بالحفاظ على حقائق الإسلام وأحكام القرآن… فسلطنة الدنيا لا تصلح لآل البيت؛ لأنها تُنسِيهم وظيفَتهم الأساسية؛ وهي المحافظة على الدِّين وخدمة الاسلام… وهم قد فقِهوا وفهموا هذا الأمر جيّدًا وسعَوا سعيًا حثيثًا وبذلوا جهدًا منقطعَ النظير في خدمة الإسلام ورفع راية القرآن.
فإن شئتَ فتأمَّل في الأقطاب الذين أتوا من سلالة “الحسن” ، ولا سيّما الأقطاب الأربعة، خصوصًا منهم الشيخ الجيلاني، وإن شئتَ فتأمّل في الأئمّة الذين جاؤوا من سلالة “الحسين” ، ولا سيما “زين العابدين” و”جعفر الصادق” وأمثالهم.. فكلٌّ من هؤلاء قد أصبح بمثابة مهديٍّ في عهده، بدّدوا الظلم والظلمات المعنويّة بنشرهم أنوار القرآن وحقائق الإيمان، وأثبتوا حقًّا أنهم وُرّاثُ جدّهم الأمجد (عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم)” .
وهذا الأمر الذي قد يفهمه فهمًا خاطئًا الناظرون إلى الإسلام من زاوية الدولة والسياسة بالدرجة الأولى أمرٌ مهمٌّ جدًّا، والحركات العاجزة عن الاهتمام بالقدر اللازم بالقناعة الذهنيّة والقلبيّة والعمق في العبادة والمعرفة والعشق ستعاني في الحفاظ على الصفاء الإسلامي لأنها تقوم على أساسٍ سياسيٍّ وأيديولوجيٍّ، كما أن الفتوح المادّيّة والسياسيّة والعسكريّة لن تُعمّر طويلًا أبدًا ما لم تُدعم بالحركات المعنوية الروحية والعلمية، وتُنقشْ على القلوب وفي الأذهان أوّلًا، ثم على وجه البسيطة في صورة حضارةٍ متكاملة، وتمثّل انتصارات كُلٍّ من “جنكيز” و”إسكندر” العسكريّة مثالًا ونموذجًا معبّرًا عن هذا، وفي مقابل هذا فإن الفتوحات التي حدثت في عصر الصحابة قد سُونِدت وتغذّت بالحركة العلميّة والمعنويّة الروحية التي لا مثيل لها في تاريخ الإنسانيّة في عهد الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وبهذه الحركات استقرّ الإسلام في كلّ مكان فتحه المسلمون وأصبح من المستحيل إخراجه منه يومًا ما، ثمّ ظهرت أروعُ وأعظمُ حضارةٍ في التاريخ، ومن هذه الناحية فإن دورَ الدولة والقوّة في انتشار الإسلام والدفاع عنه وخدمته بقي على مدار التاريخ في مرتبةٍ متأخّرةٍ بصفةٍ عامّةٍ، وإن الحركة العلميّة والمعنويّة الروحية كانت في مقدّمة خدمته دائمًا، وكانت الخدمات المنجَزَةُ بواسطتها هي الأبقى والأفضل دائمًا، ولم يُستحسَن استخدام القوّة ما لم تُحتِّم الظروفُ ذلك.
وعلى مدى التاريخ الإسلاميّ فقد سار جميعُ كبار العلماء والأقطاب المعنويين والمجددين على هذا النهج، ولم يشتغلوا بالسياسة مباشرة، وتحركوا على الأكثر انطلاقًا من الدستور القرآني: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (سورة الرَّعْدِ: 13/11)، والمبدأ النبويّ الشريف: “كَمَا تَكُونُوا كَذَلِكَ يُؤَمَّر عَلَيْكُم” ، وعملوا على دعوة الناس إلى الوصول إلى الكمال في العقل والكمال في الإيمان والعبادة والأخلاق، وسعَوا حثيثًا إلى إيصالهم إلى ذلك.
ج. بُعدٌمذهبيٌّآخرمُهمّ
إن للموضوع بُعدًا مذهبيًّا آخر مهمًّا جدًّا يتعلّق بيومنا الحاضر خاصّةً، وقد استشار سيدنا رسول الله أصحابه عقبَ غزوةِ بدرٍ حول الطريقة التي يجب عليهم أن يتعاملوا بها تجاه الأسرى، فقال سيدنا أبو بكر : “يَا رَسُولَ اللهِ، قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ، اسْتَبْقِهِمْ، وَاسْتَأْنِ بِهِمْ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ”، أما سيدنا عمر فقال: ” يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْرَجُوكَ وَكَذَّبُوكَ، قَرِّبْهُمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ” فارتضى سيدُنا رسول الله رأيَ أبي بكر، وقال له:
“إِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/36)”، وَمَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ عِيسَى قَالَ: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/118).
ثم التفت سيدُنا رسولُ الله إلى سيدنا عمر ، وقال له:
“وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ قَالَ: ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ (سورة نُوحٍ: 71/26)، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ مُوسَى، قَالَ: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ (سورة يُونُسَ: 10/88) .
هذه الحادثة المهمّة تكشف عن حقيقةٍ إسلاميةٍ مهمّةٍ، ألا وهي أن:
الرسالة التي أُسنِدت إلى رسول الله والتي قام بتبليغها على أتمّ وجهٍ في ذلك العصر؛ إنّما هي بمثابة ثمرة كلّ الرسالات السابقة، وتحمل في ثناياها أهداف كل العظماء الأبرار الذين مرّوا على التاريخ، وإنّ الرسالةَ في ذات الوقت لهي البذرة لأعمال الدعوة والتبليغ وما يلتحق بها من جهودٍ وممارساتٍ من بعده في شتّى المجالات ومختَلف الظروف… وهذا يعني أنّ رسالة النبيّ تحمل في ثناياها نتيجة ومحصّلة الرسالات السابقة ودعوات الخير التي قام بها العظماء والأفذاذُ وإن لم يكونوا رسلًا، وتغرس -في الوقت ذاته- بذرة الدعوة المستقبليّة، فكل واحد من هؤلاء يشكل جانبًا من جوانب التبليغ الإسلامية الكلّي الذي مثّله سيدنا رسول الله وبالشكل نفسه فإن أعمال التبليغ وجهوده التي تتحقق بعد سيدنا رسول الله، وفعاليات وأنشطة الأشخاص والجماعات التي ستأتي لاحقًا بهذا القصد ربما تمثل هي الأخرى واحدة أو بضعًا من المهمات السماوية السابقة؛ أي تمثل جانبًا أو بضعة جوانب من الدعوة والتبليغ الإسلاميّ.
لقد أصرَّ قومُ سيدنا نوحٍ على الإنكار والجحود إصرارًا ظالمًا عجيبًا غريبًا، فعلى مدار تسعمائةٍ وخمسين عامًا من دعوته إياهم إلى الإيمان بالله لم يستجيبوا له، بل لم يجتهدوا في تغيير أنفسهم ولم يُحاولوا أن يسلكوا الطريق الصحيح ، وكذلك كان فرعونُ ومَلَؤهُ؛ فمع أن الله تعالى حذّرَهم ونبَّهَهم دائمًا؛ فأرسل عليهم الآفات والمصائب في أوقاتٍ مختلفةٍ كالدم والطوفان، وأمطرهم بالجراد والقُمّل والضفادع، ورغم أنهم رجعوا إلى موسى ، ووعدوه بالإيمان إنْ يرفعِ الله عنهم العذاب؛ إلا أنهم في كلّ مرة أصرّوا على الإنكار مع مواصلة الضغط على رعاياهم من بني إسرائيل وتقييدِ حرّيتهم في التصرّف، ومع أن القاعدة الأساسية في دين الله تعالى هي الرحمة والشفقة والعفو والصفح دائمًا، إلا أنه لم يكن ثمّة مفرٌّ من ذلك الدعاء الذي دعا به كلٌّ من سيدنا موسى وسيدنا نوح على قوميهما؛ إذ بدا لهما أنه من المستحيل إيمان قوميهما وتخلّيهما عن الشرّ والمكاره، ومن ثم دعا كلٌّ منهما على قومه بهذا الدعاء.
أجل، إن القاعدة الأساس في دين الله تعالى هي الرحمة والشفقة والعفو والصفح، ولا سيما أن هذا هو الجانب الأهم والأصليُّ في الإسلام الذي يقدِّمُ لفظة الجلالة “الله” في البسملة مقرونةً بأوّل صفتين له وهما: “الرحمن الرحيم” إذ يُقدّم هاتين الصفتين على كلّ صفاته تعالى في البسملة التي هي بمثابة نواة الإسلام، وأكثر رسولين يمثّلان ذلك ويجسّدان هاتين الصفتين في الرسل السابقين هما سيدُنا إبراهيم وسيدُنا عيسى ، وقد فاقهما في تمثيل هذا وتجسيده سيدُنَا محمدٌ المرسلُ رحمةً للعالمين، ونظرًا لأن المدنيّةَ سادت في حقبتنا الزمنيّة -إلى حدٍّ ما-، والتي تُعْلِي وترفعُ -ولو نظريًّا على الأقلّ- من شأن القيمِ الحضاريّة مثل: الحريات وحقوق الإنسان الأساسية والتسامح واحترام الإنسان؛ فإن فتح الله كُولَنْ يتبنّى الرأي المدافع عن ضرورة قيام العلاقة مع البشر في إطار الإقناع، أي في إطار الحوار والعلاقة الطيّبة المتبادلة، وبعبارة أخرى: هو يُدافعُ عن وجهةِ النظر التي تُحَتّمُ إعلاءَ الجانبِ الإبراهيميّ والعيسويّ من الإسلامِ، والأستاذ فتح الله يطلق على هذا “الروح المحمدية”.
كانت الدنيا بأسرها متّجهةً إلى المادّة تمامًا في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكان الدِّين يتعرّض للهجمات على شتّى الجبهات، وفي الوقت الذي كان فيه الشرك والكفر ينبعان من العناد والجهل المدقع على الأكثر في الأمم السابقة؛ كانت ريحُ إنكارٍ وإلحادٍ عاصفة مهّدَ السبيلَ لهبوبها التكبُّرُ والغرورُ البشريُّ النابعُ من العلم المستنِد على المذهب العقلانيّ والوضعي، كانت تلك الريح تهبُّ في القرن المنصرِم في كلّ مكانٍ، ونتيجةً لتقدم العلوم الطبيعيّة في أوروبا إلى أقصى مدى من جانب، وتطوُّر الصراع مع الكنيسة من جانبٍ آخر أثناء سير عمليّة التطوّر والحداثةِ هذه؛ فقد منحت العقلَ البشريَّ مكانًا فوق الوحي الإلهيّ، بل إن الوحي الإلهي كان يتعرّض للإنكار أو تضيِيق الخناق عليه، وكانت عاصفة الإنكار والإلحاد هذه التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ تَهُزُّ البناءَ الإسلامي الذي شابَ وكَبِرَ في القلوب والأذهان وفي حياة الفرد والمجتمع هزًّا عنيفًا، ووفقًا لفتح الله كُولَنْ -الذي كان قَدَرُ ظهوره وتعرُّفه إلى الدنيا في مناخٍ كهذا- فقد كان الزمانُ زمانَ الردِّ والكفاحِ المعنويّ في مواجهةِ المادّيّة؛ كان الزمانُ زمانَ الإيمان الذي يدعمه العلمُ في مواجهة الإلحاد الصادر هذه المرّة من الفلسفة والعلم لا من الجهل.
لقد رسخ كُولَنْ رؤيتَه الإسلامية وفقًا لهذا المنظور، وتوجّه إلى روح الدِّين ومعناه الأصلي وقيمه المعنويّة والأخلاقيّة، إنه يرى أنّ عصرَنَا الحاضرَ عصرٌ يستوجب إبراز البُعد الإبراهمي والعيسويّ من الإسلام والروحِ المحمّديّة فيه ومن ثمّ تقديمَه وعَرضَه للأمم والشعوب.
ومع أن المتمسّكين بالفهم السياسيّ والأيديولوجيّ للإسلام يتّهمون فتح الله كُولَنْ بالتنازل عن بعض القيم الإسلامية بسبب رؤيته هذه، فإن بعض الأوساط التي تظهر نوعًا من الحساسيّة بشأن النظام في تركيا، وكذلك الذين يُقيّمُون العلمانيةَ على أساس الفهم الدينيّ يزعمون أنه -أي الأستاذ فتح الله- يُخْفِي مقصده الأصليّ، ويسعى لإقامة دولةٍ ثيوقراطيّةٍ، بيد أن الحقيقة تكشف خطأ كِلا الطرفين فهمًا وتقييمًا، وهذا الخطأ ليس وضعيًّا مؤقّتًا فحسب، بل خطأٌ فكريٌّ أيديولوجيٌّ في الوقت نفسه.
د. الإسلاموالتنظيماتأوالأيديولوجيّاتالحزبيّة
لقد اختزلت النظرةُ السياسية الأيديولوجية إلى الإسلام الخدماتِ الإسلاميةَ في كثير من الأماكن في صورة حزبٍ أو منظّمةٍ أو فعاليّات نخبةٍ معيّنة دون غيرها، في حين أن الإسلام لا يمكن أن يمثله حزبٌ أو منظّمةٌ أو مجموعةٌ أبدًا، ولا يمكن على الإطلاق تصويب ادّعاء أيّة مؤسّسةٍ بأنها تمثل الإسلام، علاوةً على ذلك فمن الواضح تمامًا أن مثل هذا النوع من السلوكيّات والرؤى يؤدّي إلى فهم الإسلام على أنه مجرّد أيديولوجيّة خاصّة بمنظّمة أو مجموعةٍ أو حزبٍ ما، ناهيك عن أنه يتسبّب في حدوث انقساماتٍ بين المسلمين تخالف الإسلام وتعارض روحه، وكما يتسبّبُ الدخول تحت لواء التكتّلات أو الأحزاب أو التشكيلات باسم الإسلام في انقسام المسلمين وتشرذمِهم في صورة أحزابٍ ومنظّماتٍ؛ فإنه يدفع الكثيرين منهم إلى فكرة استغلال الإسلام في سبيل مقاصده وأهدافه الدنيويّة السياسيّة، والأكثر من ذلك أن مفاهيمَ الإسلام ومثُلَهُ الجوهريةَ تُقدَمُ بطرقٍ مختلفةٍ متباينةٍ، وهو ما سينتج عنه في النهاية أن يُدمج الإسلامُ مع أشكال وأنماط الأنظمة والأفكار والمعتقدات الأخرى المتباينة المختلفة أو يُعتبَرَ قريبًا منها، كما قد يُثيرُ شكوكًا بأنه يتوارى خلف فكرة “التقية” والحقُّ أن المؤمن مطالَبٌ بأن ينأى تمامًا عن كلّ ما يُعكّرُ صورة الإسلام ويسيء إليه مهما بَدَرَ وصَدَرَ من جانب الأوساط المعادية للإسلام.
وكما أنه لا مكان للأحزاب أو المنظمات أو التحزُّب في رؤية فتح الله كُولَنْ الإسلامية؛ فإن أساسها هو البعد التامّ عن السياسة وعن إثارةِ الانطباع بأن الخدمات المَسْعِيَّ إلى تنفيذها وتحقيقها على الساحة تُستخدم كآلةٍ وأداةٍ لأهدافٍ سياسيّةٍ أو غيرها من الأهداف الدنيويّة الأخرى، وقد عبّر بنفسه عن هذا في كثيرٍ من كتاباته وأحاديثه وما أُجري معه شخصيًّا من حواراتٍ ولقاءاتٍ، ومن ذلك على سبيل المثال:
“الدين قدسيٌّ ومنزّهٌ في ذاته، ومِن أشكال تقديسه وتنزيهه عدمُ استخدامه آلةً لأيِّ شيءٍ دنيويٍّ أو أيّ نوعٍ من أنواع التربّح المادّيّ أو المعنويّ، وما دام الأمر كذلك فإن تسييسَ الدين، وجعْلَ الإيمانِ أساسًا لمجموعة من الآراء السياسية لكونه مصدرًا مقدّسًا، والنظرَ إلى المسائل والقضايا بهذه النظرة، وإضفاءَ القدسيّة على تحليلاتنا وتفسيراتنا ومفاهيمنا المتعلّقة بالإدارة، وتبجيلَها وتقديسَها قد يكون تصرُّفًا وسلوكًا يزدرئُ الدِّين ويستهين به، ثانيًا: حينما يؤسّس بعضُ المسلمين أفكارهم وآراءهم السياسيّة ورؤيتهم الحزبيّة؛ على الدِّين فإن عيوبهم وعاهاتهم ونقائصهم تنعكس على الدِّين إلى حدٍّ ما، وبالتالي فإن ردّة الفعل عليهم تكون ردّة فعلٍ على الدِّين أيضًا، لا بدّ من تمثيل حقيقة الدِّين بحيث تكون أسمى من كلّ الآراء السياسيّة جميعها؛ ذلك أننا حين نُسيّسُ الدين، ونقول إننا نمثّلُه نكون وكأننا قد أقصينا غيرنا منه، وحتى إنْ اعتبره بعضُهم نصرةً للدين إلا أنني أرى أن من يُسيّسُهُ يُسيءُ إليه أكبرَ إساءة؛ نظرًا لأننا بتصرّفاتنا هذه أو تلك نحجبه ونُعَتِّمُ عليه، ونُسيءُ إليه؛ ومن ثمّ يلحقه قدرٌ ممّا يلحقنا من البغض والكره” .
هـ. الايجابيةفيمواجهةردّةالفعل
إن الناظرين إلى الإسلام من زاوية الأيديولوجيّة السياسية لم يتخلّصوا من النظر إليه من نافذة الوضع القائم، و”المتاع الرائج في السوق”، والأنظمة الفكرية والأيديولوجيات الموجودة المسيطرة، وأنماط تقديم الإسلام المختلفة عن بعضها البعض نتيجةً لهذا، ناهيك عن أنهم سعوا إلى التوفيق بين الإسلام وبين الأنظمة الفكريّة والأيديولوجيّات الموجودة متّبعين في ذلك أسلوبًا يغلب عليه الاعتذار، وبهذه الطريقة لم يقدّموا الإسلام بطبيعته الخاصّة به؛ بل قدموا له صورةً تختلف عن غيرها في كلّ فترةٍ، وعلى سبيل المثال: إنه سُوّيَ بين الإسلام وبين الليبرالية والرأسماليّة وما تقومان عليه من القيم في أواخر القرن التاسع عشر والربع الأوّل من القرن العشرين، وصار الإسلام عقب الحرب العالميّة الثانية وكأنّه مقرون بالاشتراكيّة تزامنًا مع رواج التيارَين الاشتراكي والشيوعي في البلاد المعروفة باسم العالم الثالث خاصّةً، والعالم الإسلاميّ خلال الفترة نفسها.
أما في عصرنا فإن الإسلام يُدرسُ وقد سُوّيَ بينه -بعض الشيء- وبين المفاهيم التي يشكل كلٌّ منها قيمةً مختلفةً كالعولمة والتغيير المترتّب معها، والليبرالية والتعدّديّة الثقافية، وبهذا الشكل فإن الإسلام سيظهر أمام المخاطبين على أنه يختلف من مرحلةٍ إلى أخرى، ويقدمُ الإطارُ الذي شكله الآخرون والتحليلاتُ والتفسيراتُ المطروحةُ بشأنِ الإسلام على المدار الذي رسموه هم أيضًا على أنه نمطٌ وطورٌ إسلامي، فيختزلُ الإسلام -نتيجة لذلك التقديم- في أنه نوع من الفلسفة أو الأيديولوجيّة التي تنتجها ردود الأفعال.
والحركات التي تقوم على الفهم السياسيّ الأيديولجيّ للإسلام لا تستطيع التخلّص من كونها حركاتِ ردِّ فعلٍ حسبما تقتضيه طبيعتها، وتتمزّق نتيجةً لانهزامها في كلّ مرّةٍ، وتتسبّب في أن تنشأ في أذهان الناس أفكارٌ مثل عجز الإسلام أو بعض قواعده على الأقل، ورغم هذا فإن فتح الله كُولَنْ يتناول الإسلام كدِينٍ ويتناول مبادئَهُ الثابتة في هذا الإطار، ولذا فهو لا يعاني أيَّ نوعٍ من التناقض والتضارب في نظرته إلى الإسلام وتقديمه إيّاه.
و. معرفةاللهومحبته
الدين محبّة، وهو يقوم على أساسها، إنها سببُ وجود الكائنات، كما أنها صلة الوصل بين الكائنات وهي نورُها وحياتها، والإنسان هو نواة شجرة الكائنات وثمرتها التي تنضوي فيها كلُّ خصائصها، وإنَّ محبّةً تحيط الكون كلَّه قد أُودِعت وأُقِرَّت في قلبه الذي هو نواة هذه الثمرة، ففي الأرض التي خُلِقَ الإنسان منها -وبعبارة أخرى في تلك الأرض التي جُعل خليفةً فيها يحمل وظيفةً ومهمّةً تليق به- كان كطائرٍ في قفصٍ يخفق في محبّة الله تعالى وشوقًا إلى وطنه الأصلي، غير أن الإنسان الذي أُقرّت في قلبه محبّةٌ أبديّةٌ أساء استعمالها؛ فأَحَبَّ أشياءَ آفلةً فانيةً مؤقّتةً بينما كان يجب عليه أن يتحلّى بالكمال والجمال الأبديّ الذي تهدف إليه هذه المحبة، ونتيجة لفعله هذا تتحوّل مثل هذه المحبّة إلى محنةٍ ومصيبةٍ له، وحتى وإن قهقه فليست تلك القهقهات سوى انعكاساتٍ لبكائه وعويله النابعِ من عشقه للبقاء أو الخلود؛ فأكثر إنسانٍ ضحكًا في الدنيا هو أكثر الناس كربًا وابتلاءً في الحقيقة، وأكبر العوامل وأعظمها التي يمكن أن تزيل هذا الهمّ والكرب -وتقضي على العوامل التي تفصم الإنسان عن صاحبه وإلهه الحقيقيّ وتجذبه نحو الآلهة الزائفة الباطلة-؛ هو توجيهُ المحبة إلى هدفها الحقيقي، فالمحبة إكسيرٌ يزكّي النفس، ويطهّرها، ويهبُ الإنسان الشرف والقوّة والجسارة، ويجعل الحجر جوهرًا، إنها ماء الحياة الذي يتعطّش إليه الإنسان، ويستطيع الإنسان أن يسير في سبيل الله تعالى بقدر محبّته إيّاه؛ فيتحمّل المشاقّ والأزمات بقدر محبّته إيّاه سبحانه، ويُؤثِرُ بفضلِ تلك المحبةِ الحياةَ الآخرة والجنة ورؤية جمال الله على الحياة الدنيا، فالمحبّة هي علامة سموّ الإيمان من مجرّد القبول والتصديق العقليّ إلى الإحسان، والمعرفة هي ما يُكسِبُ هذه المحبة؛ معرفةَ الله حقّ المعرفة، وعلى حين أن هذه هي الحقيقة؛ فإن معظم الحركات الإسلاميّة المؤسّسة على الأيديولوجية السياسيّة لم تهتمّ الاهتمام اللازم بمعرفة الله ومحبّته والسعي لأجل تحقيق ذلك، بل أخطأت بوقوفها في وجه “المؤسّسات” التي تهدف بأنشطتها إلى تحقيق هذه المعرفة والمحبّة.
وقد تسبّب هذا في اختزال الإسلام في صورة فلسفةٍ عقليّةٍ، أو نظامٍ أيديولوجيٍّ أو اقتصاديٍّ سياسيّ، كما أثّر سلبًا في تطبيقه بشكلٍ لائقٍ في الحياة في حين أنه دين محبّةٍ يُنقِذُ القلوبَ من الموت والعمى مستندًا إلى العقل الذي يعكس مدى صدق الإيمان وقوة المعرفة وبالطبع فإنه يتعذّر تعميم هذا الحكم بالنسبة لكلِّ إنسانٍ وحركةٍ تنظر إلى الإسلام من الزاوية الأيديولوجية السياسية، إلا أن هذا الفهم أدّى إلى نتائج سلبيّةٍ من هذا القبيل في كثيرٍ من الأزمان والأماكن، وإنّ الروح الإسلاميّة الممثّلة في أساس معرفة الله ومحبّته تحتلّ مكانًا مهمًّا في رؤية فتح الله كُولَنْ للإسلام، وكتاب “التلال الزمرّديّة نحو حياة القلب والروح” الذي ألّفه فتح الله كُولَنْ ببالغ الصبر والدقّة والعناية منذ سنواتٍ يبدو وكأنه مدرسة المعرفة بالنسبة لحاضرنا ومستقبلنا.