يُقِرُّ فتحُ الله كُولَنْ بمحدوديّة مجال العلوم التجريبيّة، ومع تصريحه بأن العِلْمَ ومجالَه ليسا هذا فحسب، لا يرى أن مصادرَ العِلْمِ تكمنُ في الحواسِّ والتجارب، ولا يحصرها في ذلك فقط؛ فهو يتناول المسألة من منظورٍ إسلاميٍّ، ولذلك يقول:
“من أسباب العلم أو مصادره: “الحواس السليمة”؛ أي أعضاء الحسّ السليمة التي تؤدِّي وظائفها تامَّةً دون نقصٍ، أما احتماليّة أن تخطئَ أعضاءُ الحسِّ فهي حقيقةٌ واقعةٌ لا ندّعي خِلافها، لذا قيدوها بكونها “سليمة”.

العقلَ لا يقود بمفرده الإنسانَ إلى الصواب الـمُطْلَقِ، كما أنه لا يُمثِّلُ مصدرَ الصواب والحقِّ الوحيد.

ثاني أسباب العلم: العقلُ السليم؛ ويدخل فيما يُعلم بالعقل البديهياتُ وعيرُها، فالعقلانيّة الفَظَّةُ تعتبِرُ أنَّ العقلَ هو المصدرُ الأوحدُ للعلم والحقيقة، في حين أنَّ ثمة وقائعَ وحقائقَ يستحيل إنكارُها كاختلاف العقول باختلاف الأشخاص، واحتماليّةِ أن تُطرح مجموعة من “الحقائق” المختلفة حول مسألة معينة بحسب أعداد الناس، وأنَّ العقل قد يتأثر بكثير جدًّا من الأمور كالحس والرغبة والنزوات النفسية والأيديولجيات والمعتقدات، ناهيك عن أنه مُعرَّضٌ للنمو والضمور أيضًا؛ إذًا فاعتبارُ العقلِ -أيًّا كانت قيمتُه- مصدرَ العلم الوحيد يمثِّلُ نوعًا آخر من الانخداع، وحين أدرج العلماء المسلمون العقلَ بين مصادر العلم أو أسبابه اشترطوا “أن يكون العقلُ هو ذلك العقل المنشود” أو “العقل السليم” أي العقل المتحرِّرُ من تأثير العناصر والعوامل التي ذكرناها آنفًا، ولا شكّ أن كُولَنْ أيضًا يرى الشيءَ نفسه؛ إذ يُعَرِّفُ العقل السليم بأنه: “العقل الذي يُدرِكُ الأشياء ويُقيِّمُها بحالتها الأولى المجرّدة دون اتِّخاذه موقفًا مسبقًا تجاهَ أيِّ شيءٍ”.

إنَّ العقل في فكر كُولَن المستند إلى القرآن يُمثِّلُ فعاليَّةً أكثر من كونه كُلِّيّةً ثابتةً بذاتها.

وإن كان فتح الله كُولَنْ ليس عقلانيًّا بالمعنى الفلسفيّ إلا أنّه يهتمُّ بالعقل اهتمامًا كثيرًا؛ إذ العقلُ على حدِّ تصويرِه: “شيءٌ مجرّدٌ من المادّةِ، لكنه جوهرٌ ملاصقٌ لها، وهو في داخلِ الطبيعةِ امتدادٌ نورانيٌّ لما وراءها، وأحدُ أهمِّ كلِّيّات الروح، وهو أوضح نورٍ يكمن في ماهيّة الإنسان للتفريقِ بين الحقّ والباطل”.

العقل قد يتأثر بكثير جدًّا من الأمور كالحس والرغبة والنزوات النفسية والأيديولجيات والمعتقدات، ناهيك عن أنه مُعرَّضٌ للنمو والضمور.

وينظر كُولَنْ إلى العقل على أنه: “قوَّةُ الروح الحارسةُ من حيث تفكيرُ الإنسان وفهمُه ومنعُه من الوقوع في الآثام وتوجيهه إلى الخيرات”، وقد ربطَ علمُ الكلام في الإسلام المسائلَ المتعلّقةَ بأصول الدين -ربطها- بالعقل إلى حدٍّ كبيرٍ على اعتبار أنه أساسُ التكليفِ، ومناطُ التفكُّرِ والتدبُّرِ، وأوَّلُ جواهر المحاكمة العقليّة، والمميِّزُ للإنسان عن الحيوان، الذي يقوده إلى بابِ الإنسانيّة الحقة، كما أنه أروعُ هدية من الخالق للإنسان.
ومع أنَّ فتح الله كُولَنْ ينظرُ إلى العقل ويعتبره جوهرًا فإنه يُقَيِّمُه في الإطار القرآني من زاوية “المعقولية” في الأكثر، أي إنَّ العقل في فكر كُولَن المستند إلى القرآن يُمثِّلُ فعاليَّةً أكثر من كونه كُلِّيّةً ثابتةً بذاتها؛ ولذلك فإنه يتحدَّث عن “العقل النَّشِطِ الفعّال”، وفي هذا الإطار فإن الشرك بالله -مثلًا- أمرٌ غير معقول؛ لكنَّ التوحيد معقولٌ بكلِّ شُعَبِه، والقرآن والإسلام بهذا المعنى يجعلان العقلَ يُسجِّلُ كل المسائل ويثبتها، وليس فيهما أيَّةُ مسألةٍ مخالفةٍ للعقل، ولم تُترك في أيٍّ من رسائل القرآن وأحكام الإسلام أيّةُ فجوةٍ ولا ثغرةٍ عقليّةٍ أو قلبيّةٍ أو روحيّةٍ أو حسّيّة، بل العكس؛ إذ الإسلام كان ولا يزال منبرًا للعقل السليم والمحاكمة العقليّة المبنيّة على الأسس والقواعد والمنطق المنظّم، وقد أفحَمَ الطرفَ الآخرَ ذا المغالطات والجدال والغوغائية غير المعقولة، وأنهى نضاله مع هذه الأمور بتحقيق النصر عليها” .

لا يرى كولن أن مصادرَ العِلْمِ تكمنُ في الحواسِّ والتجارب، ولا يحصرها في ذلك فقط.

وبرغم كلِّ شيء فإنَّ العقلَ لا يقود بمفرده الإنسانَ إلى الصواب الـمُطْلَقِ، كما أنه لا يُمثِّلُ مصدرَ الصواب والحقِّ الوحيد؛ فقدرتُه على أن يكون عقلًا سليمًا مرتبطةٌ ببُعدِهِ عن كلِّ أنواع الأحكام المسبقة وتحقيق المنفعة الشخصيّة، كما أنه ينبغي أن تُرسَمَ له طريقٌ سليمةٌ لصالح فعالياته ونشاطاته؛ أي إنَّ العقلَ محتاجٌ في فعاليّاتِهِ إلى مرشدٍ ودليلٍ يهديه السبيل، هذا الدليل سينير له الطريق الذي يسلكه، وسيمنحه مقاييس ومعايير ثابتة لا تَضِلُّ تجعلُه يبصرُ وظيفتَه المطلوبةَ منه، هذا المرشد والدليل في الطريق هو”الخبر المتواتر”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ